مع نهاية "عام الشعر العربي" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قدمت وزارة الثقافة السعودية ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة للمشاهد العربي خيارا ثقافيا جديدا وحدثا استثنائيا عبر برنامج "معلقة45"، كأكبر مسابقة شعرية سنوية، تُبث على قناة "الثقافية"، وتحتفي بنخبة من الشعراء العرب، في منافسة إبداعية تلفزيونية، أعادت للمشاهد العربي طيلة فترة بثها ذائقة التلقي والتفاعل مع الأدب الرفيع بأصناف وأشكال متنوعة، واختُتِمت حلقاتها بعدما عرّفته بجوانب من تطورات القصيدة الحديثة، ومن رؤى وأحكام النقد المعاصر.
ومثلما مَثلت قصائد المعلقات نقلة نوعية للشعر العربي في العصر الجاهلي، وظلت مثل العُقود النفيسة تَعْلق بالأذهان، راهن برنامج "معلقة 45" على فتح المجال أمام "قصيدة النثر" ليتنافس شعراؤها لأول مرة في مسابقة تلفزيونية، وهو رهان يستند إلى مُمكنات اللغة العربية، وما تفصح عنه من جماليات المعنى القادرة على جذب اهتمام قطاع واسع من الجمهور، الذي لم يأنس بعد النمط الشعري المعتمد على الدلالة اللغوية دون الاعتماد على الصوت والقالب اللذين يُظهِرُ إيقاعهما الأوزان والقوافي في الشعر النبطي، وفي القصيدتين العمودية والتفعيلة.
ومن وحي المعلقات التي عبَّرت عن احتفاء المجتمع العربي بالشعر، من خلال كتابة قصائدها بماء الذهب وتعليقها على أستار الكعبة، كما ذهب إلى ذلك عدد من المؤرخين، فإن برنامج "معلقة 45" سيقوم بتكريم القصائد الفائزة بتعليقها في موقع مميز بمدينة الرياض عبر مراسم خاصة للاحفتاء تليق بمكانة عاصمة المملكة، ليس ذلك فحسب، بل يسعى البرنامج لخلق إضافة جديدة للحركة الشعرية في المملكة وفي المنطقة العربية، من خلال تأسيسه لنواة "نادي الشعراء"، ليشكل المتنافسون فيه الكوكبة الأولى التي ستنضم للنادي.
حظيت بهذه الفرصة الفريدة من خلال هذا البرنامج، ما يُمثل اعترافا به وإبرازا له للجمهور العريض من محبي الشعر
كاظم الخليفة
جمعت المسابقة بين ثلاث فئات، ممثلة في الشعر الموزون، الذي يضم القصيدتين العمودية والتفعيلة، والشعر الشعبي، والشعر الحر "قصيدة النثر"، وضم البرنامج لجنتي تحكيم، الأولى مختصة بالنظر في الشعر الفصيح والحر، والثانية مختصة بالشعر الشعبي.
ولتقديم طريقة تحكيم مبتكرة ترتكز على الشعراء أنفسهم، تشكلت عضوية لجان التحكيم في المسابقة من الشعراء فقط، ولم تعتمد على النقاد الأدبيين، في تجربة جديدة لم تعهدها من قبل المسابقات الشعرية التلفزيونية، أو المسابقات الأدبية بشكل عام.
وضمت لجنة التحكيم الخاصة بالشعر الفصيح والحر الشاعرة الدكتورة فوزية أبو خالد والشاعر محمد إبراهيم يعقوب والشاعر العراقي عارف الساعدي، كما ضمت لجنة التحكيم الخاصة بالشعر النبطي أو الشعبي الشاعر فهد عافت والشاعر مدغم أبو شيبة والشاعر سفر الدغيلبي.
وبعد أربع مراحل مرت بها المسابقة بدأت بمشاركة 36 شاعرا ضمن الفئات الشعرية الثلاث، الشعر الحر والشعر النبطي والشعر الفصيح "الموزون" بواقع 12 شاعراً عن كل فئة، وصل إلى المرحلة النهائية الشاعران إبراهيم المبارك ومحمد التركي عن فئة الشعر الحر، والشاعران صالح النشيرا وعبدالمجيد الذيابي عن فئة الشعر النبطي، والشاعران جاسم الصِحيّح ودخيل الخليفة عن فئة الشعر الفصيح.
وحصل الشاعر القطري صالح النشيرا على المركز الأول ولقب "صاحب المعلقة" ضمن فئة الشعر النبطي، وحصل الشاعر السعودي محمد التركي على المركز الأول ولقب "صاحب المعلقة" ضمن فئة الشعر الحر، فيما حاز الشاعر السعودي جاسم الصِحيّح المركز الأول ولقب "صاحب المعلقة" ضمن فئة الشعر الفصيح.
وكان البرنامج قد وجد تجاوبا واسعا من الجمهور والمهتمين بالشأن الأدبي في السعودية والمنطقة العربية، وأثار العديد من النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما بشأن ما تضمنه من نمط تجديدي على مستويي الشكل والمضمون.واستطلعت "المجلة"بعض الآراء المختصة من خارج البرنامج ومن داخله، للوقوف على أبرز إضافاته الفنية، وتقييم مستوى المشاركات فيه، وما تحتاج إليه المسابقة من تطوير في مواسمها المقبلة.
آفاق فنية
يوضح الناقد الأدبي كاظم الخليفة، لـ "المجلة"، أن برنامج "معلقة 45" يعمل على إضاءة الأفق الشعري السعودي والعربي المعاصر، مشيرا إلى المستوى الذي وصلت إليه الشعرية المعاصرة، من خلال تجارب الشعراء المشاركين فيه"إضافة إلى كونه يُبرز المواهب الحقيقية الشابة، جنبا إلى جنبكبار الشعراء، وهو ما يَمنح المسابقة تنوعا في الحضور والمشاركة، أما الغاية الأسمى للمعلقة، فتتمثل في الإعلاء من شأن الشعر كقيمة عربية أصيلة، وأحد أهم الفنون في الثقافة العربية وآدابها".
ويضيف الخليفة أنه، وبالعودة إلى مفهوم الشعرية المعاصرة، فإن البرنامج "ينفتح على جميع أشكال القصيدة، فبالإضافة إلى القصيدة العمودية في جنس القصيدة الكلاسيكية، يحتفي أيضا بقصيدة التفعيلة، كما أنه لا يُقصي القصيدة الحديثة متمثلة في قصيدة النثر، التي كانت تدافع عن ذاتها بجهود شعرائها فقط على مدى عقود، وقد حظيت بهذه الفرصة الفريدة من خلال هذا البرنامج، ما يُمثل اعترافا به وإبرازا له للجمهور العريض من محبي الشعر".
ولفت إلى أن ما تَلمسه من تفاعل من قبل الجمهور مع قصائد النثر التي ألقيت في البرنامج، ينفي تهمة النخبوية التي طالت هذا اللون الشعري، ونفت الادعاءات القائلة بأنه لا يُمكن تَلقي قصيدة النثر إلا من خلال القراءة، وأنه لا يُمكن التفاعل معها من خلال النشاطات المنبرية، مِن ثَمّ فإن حضور قصيدة النثر وتفاعل الجمهور معها يُمثل المفاجأة الأسعد لجمهور الشعر.
الإنجاز الحقيقي والفريد الذي حققته هذه المسابقة هو الحفاوة بقصيدة النثر، التي لم يطأ شعراؤها منابر المنافسات الشعرية يوما
أحمد القيسي
من جانبه، يقول الشاعر والناقد الأدبي أحمد القيسي لـ "المجلة"إن "كل فعل ثقافي لا بد وأن يُحدِث أثرا في المشهد، فكيف بمسابقة كبيرة بحجم المعلقة التي لفتت انتباه الشعراء في كل الدول العربية، وأصبحت جزءا من أحاديثهم ومنشوراتهم اليومية في منصات التواصل الاجتماعي، فمن المؤكد أن مثل هذه المسابقة لن تقبل سوى النصوص الرفيعة، وهذا ما سيكون في حسبان الراغبين في المشاركة خلال المواسم المقبلة".
وأشار القيسي إلى أن البرنامج يوضح مدى تقدير هيئة الأدب والنشر والترجمة للشعر والشعراء، وبما سيحظى به الشعراء المغمورون من اهتمامِ إعلامي، فضلا عن التقدير المادي للفائزين بما يليق بقيمة الشعر، معتبرا أن "الإنجاز الحقيقي والفريد الذي حققته هذه المسابقة هو الحفاوة بقصيدة النثر، التي لم يطأ شعراؤها منابر المنافسات الشعرية يوما، لتشجع حضورها المنبري والإعلامي".
تضمن برنامج "معلقة 45" الكثير من لحظات الشغف والترقب والمتعة الفنية بالقصائد، بما احتواه من وسائل إبداعية وتمثيلية حققت الإبهار على مستوى الصورة، وتضمن أيضا الكثير من المعرفة النقدية التي تلقاها المشاهد. عضو لجنة التحكيم الشاعرة الدكتورة فوزية أبو خالد، تحدثت لـ "المجلة" عن تجربتها في البرنامج بالقول "كم سأفتقد هذه المعلقة التي مثل فيها كل درس عمرا بأكمله، حيث أتاح لي البرنامج التَعلم من فتية نضرة وأنا في هزيعي الأخير، وكأنني أدخل إلى الحياة لأول مرة، كم سأفتقد هذه التظاهرة الثقافية، التي تتوق إليها القلوب عبر العالم العربي، فعبر المعلقة دخلت أطياف الشعر إلى البيت السعودي والبيت العربي، وأصبح المشاهد العربي يُصغي كل يوم إثنين لنشيد قصيدة النثر وشعر التفعيلة والشعر العمودي جنبا إلى جنب الشعر الشعبي".
ورأت أن البرنامج "أتاح تلاقي التجارب الشعرية بين شعراء لديهم تجارب عريقة ومعتقة ويملكون الشجاعة الأدبية مع شعراء لا يملكون من التجربة إلا طيش الشعر وشغفه، ولقد عشنا كمحكمين على مدار المعلقة متلازمة أرق التحكيم وقلقه، تحريا لأمانة الكلمة ونزاهة الحكم، بجانب الانغماس في قراءة القصائد المشاركة".
أتاح تلاقي التجارب الشعرية بين شعراء لديهم تجارب عريقة ومعتقة ويملكون الشجاعة الأدبية مع شعراء لا يملكون من التجربة إلا طيش الشعر وشغفه
فوزية أبو خالد
وأعربت أبو خالد عن مدى إعجابها بفريق عمل البرنامج وبالمواهب الشابة المشاركة فيه: "فريق عمل ممشوق من عيون الشباب، وحريص على إعطاء البرنامج فرصة الوصول إلى عيون الشعر بكل تجرد وموضوعية وإخلاص، ومواهب يانعة في الشعر الشعبي والشعر الفصيح بأطيافه تشارك ببواكير إبداعها الشعري، وتقف بزهوٍ على مسرح المعلقة".
وأشارت إلى أن البرنامج يُمثل تجربة الشعر الخالص في غايتها ومبتدئها، وهي تجربة تضيء بالتفاعل الخلاق بين العنصر البشري المؤلف لها وبين عناصر أخرى كالكاميرا والمسرح والنقد الموضوعي البناء، وكما كانت المعلقات رمزا للشعر، وديوانا تاريخيا للعرب، سيجدد "معلقة 45" علاقة الأجيال الجديدة بالحب والجمال كضرورة حياتية.
شعراء محكمون
يرى الناقد الأدبي كاظم الخليفة أن من المبكر تقييم تجربة تشكيل لجان التحكيم من الشعراء لجِدّة التجربة في التقاليد العربية الحديثة، على الرغم من أن الاحتكام إلى الشعراء المبرزين لتقييم النصوص الشعرية المتنافسة ممارسة قديمة تعود إلى أيام سوق عكاظ، مثل تقييم النابغة الذبياني في سوق عكاظ لقصيدة حسان بن ثابت التي يقول فيها: "لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى"، وهناك أيضا نقد الفرزدق لأبيات ذو الرمة: "نبت عيناك طلل بحزوي"، وهما تجربتان قد أشار إليها أبوبكر الصولي وهو من نقاد القرن الرابع الهجري، فأيدَّمن خلالهما أن يكون الشعراء أنفسهم حكاما على جودة الشعر بين المتنافسين.
وأضاف أن الصولي وضع شروطا للتحكيم بألا يكون مقياس الشاعر "الحَكَمْ" ما يوافق مذهبه فقط، بل يكون محايدا وموضوعيا ومتقبلا لما لا يوافق ذوقه، وعلى هذا الأساس قَبِلَ الصولي النقدَ من أبي تمام، ولم يَقبله من البُحتري، وقال في ذلك، إن نقد الشعر يصح "لمن راضوا الكلام وقالوا الشعر وعرفوه وطرقوا المعاني وماشوها ورووا وميزوا".
ويلفت الخليفة إلى أن الناقد جون كوين ينقل عن بعض النقاد قولهم إنه"لا ينبغي التحدث عن الشعر إلا بطريقة شعرية"، أما الشاعر الأميركي أرشيبالد مكليش فيصف نقاد الشعر من غير الشعراء بأنهم "كمن يضع خرائط لجبال العالم الذي يريدونه، غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلقوا تلك الجبال قط".
وأشار إلى أن من خلال تجربة "معلقة 45" باعتلاء الشعراء منصة التحكيم، يُمكن اختبار صحة رأي الشاعر مكليش، الذي قد يكون رأيا ضروريا لتحكيم قصيدة النثر، لأنها قصيدة لم تكتمل قواعدها بعد على الرغم من إسهامات العديد من النقاد في تقعيد هذا اللون الشعري؛ كأدونيس وأنسي الحاج في الجانب العربي، وسوزان برنار في الجانب الفرنسي، والذي لا يتفق معها مواطنها الناقد موريس شابلان، حيث لا يرى أي جدوى في اختطاط القواعد والتنظير لها لأن "قصيدة النثر هي نوع لم يتجرأ أي منظر على أن يعلن عن قوانينه، وأن هذه الحرية تمنحها فعالية فقدتها الأنواع الغنائية الأخرى".
وأضاف الخليفة: "وفق ما سبق فإنني أرى أن من المستحسن لتحكيم قصيدة النثر في برنامج المعلقة أن يكون أحد أعلامها الشعراء - كالدكتورة فوزية أبو خالد - في منصة التحكيم، أما في القصيدة الكلاسيكية فيمكن أن يكون الحكم على النصوص المتنافسة شعراء أو نقادا، أو المزج بينهم".
بدوره، تساءل أحمد القيسي عن سبب اعتراض البعض على تشكيل لجان التحكيم من الشعراء بقوله: "ما المشكلة في كون أعضاء اللجنة شعراء وليسوا نقادا؟ أليس الشاعر ناقدا بطبيعته سوى أنه لم يقدم نصا نقديا يُلهيه عن اشتغالاته الشعرية؟ إن الشاعر في تقديري أفضل ناقد، ذلك لأنه يُدرك جيدا ما يجب أن تكون عليه القصيدة، ويستطيع الشاعر دون سواه أن يُلامس النص الشعري ليس بالأدوات النقدية التي قد تساوي بمعاييرها أحيانا بين قصائد متفاوتة، بل بحسه النقدي الفطري الذي يفتقده دارس النقد".
يقترح الخليفة والقيسي ضرورة تخصيص مسار موازٍ في المسابقة للشعراء الصغار في السن، من أجل تحفيزهم وتبني مواهبهم مبكرا
واعتبر القيسي أن الأسماء الشعرية التي شاركت في التحكيم تعدّ قامات أدبية لا يُختَلفُ على قدرتها، ولم يتذمر أحد المشاركين من آرائهم وأحكامهم، لافتا إلى أن المسابقة لا تزال في نسختها الأولى، ومن الطبيعي أن تَظهر فيها بعض الأخطاء، وأنها على الرغم من ذلك أحدثت صدى واسعا، وحازت اهتمام الكثير من المتابعين والمهتمين بالشأن الأدبي.
انتهى قبل عدة أيام برنامج #المعلقة الذي تشرفت وسعدت بتقديمه برفقة الزميلة @Suhanowailaty
مبروك للشعراء الفائزين النجاح والتكريم ، بتعليق قصائدهم كما كرّم العرب القصائد العظيمة وهذا هو الفوز
ومثل ما قال عبدالمجيد الذيابي @Sh96F
الشاعر مْع الناس لو هو فـ القبر/
مادام له شطرٍ… pic.twitter.com/vEBCGETpqR
من جهة أخرى، يقترح كاظم الخليفة ألا تكتفي الدورات المقبلة من برنامج "معلقة 45" بنص شعري واحد لكل شاعر في الجولة الأولى من المسابقة، بل تنقسم درجات التقييم، فتعطي 50 % منها على ديوان يختاره المتسابق من شعره، والنصف الآخر على القصيدة التي يختارها للمنافسة، ذلك لأن بعض الشعراء الذين خسروا الجولة الأولى، لم تكن نصوصهم هي النصوص الأفضل لديهم، ولا تكشف هذه النصوص عن حقيقة تجربتهم الشعرية، أما في الجولات التي تلي الجولة الأولى، فيُمكن للجنة التحكيم الاحتكام إلى نصٍ واحدٍ باعتباره أبرز نصوص الشاعر، كما يُمكن تشكيل لجنة من "المحلفين" يُمثلون الجمهور المتذوق للشعر، كي تسترشد لجنة التحكيم وتستأنس بآرائهم.
ودعا الخليفة إلى أن يهتم البرنامج بجميع أشكال القصيدة الشعبية كـ"الزهيرية" على سبيل المثال، والتي تُمثل المادة الشعرية لغناء "النهام" المعروف في شرق المملكة وساحل الخليج العربي، ليكون من ضمن أهداف البرنامج الحفاظ على التراث الشعبي وصونه من الاندثار، مقترحا كذلك تخصيص مسار موازٍ في المسابقة للشعراء الصغار في السن، من أجل تحفيزهم وتبني مواهبهم مبكرا، وهو ما يتفق معه – إلى حد ما - أيضا أحمد القيسي بدعوته لتخصيص نسخة مشابهة تشجيعية للشعراء الصاعدين، لجهة وجود صعوبة في إثبات حضورهم بين شعراء لهم تاريخهم.