لندن: قريبا من محطة مترو "سانت لازار بباريس" يقف نصب الساعات الذي نحته الأميركي (من أصول فرنسية) أرمان (1928 ــ 2005) ليؤكد أن النحت المعاصر أخذ طريقه إلى الحياة العامة منذ زمن طويل. وما أعمال الأميركي الكسندر كالدر المنتشرة حول العالم إلا دليل على تلك الحقيقة الفنية التي صارت واقعا يتعايش معه الناس العاديون الذين صاروا ينظرون إلى تلك الأعمال مثلما يفعلون مع الأعمال النحتية التي تنتمي إلى عصور كان النحات فيها ملتزما بالمفهوم النحتي السائد الذي يفرض عليه أن يقوم باسخراج أشكاله من المادة التي كانت تقتصر على الصخر والبرونز والخشب، بدءا من الإيطاليين دوناتيلو ومايكل انجيلو وانتهاء بالبريطاني هنري مور والسويسري جياكومتي مرورا بالفرنسي أوغست رودان والروماني قسطنطين برانكوزي.
ومَن أُتيحت له فرصة الإطلاع على التحولات التي شهدها فن النحت في القرن العشرين لابد أن يكون على معرفة بأن مواد كثيرة قد دخلت إلى ذلك العالم وصارت تُعامل باعتبارها مواد أصلية. كان الحديد والألمنيوم في مقدمة تلك المواد. غير أن النحت في القرن العشرين انتقل إلى منطقة جديدة يكمن سحرها في استلهام خيال المواد المختلفة. بعد أن امتزج فن التركيب والتجهيز بفن النحت فقد النحت خصوصيته التي تتعلق بالمواد الصامتة. فاتخذ تركيب المواد طابعا نحتيا وصرنا نرى هياكل نصبية تشترك في تأليف أشكالها مواد مهملة ومنسية لا علاقة لها بما يُسمى بالمواد النفيسة مثلما كان يسميها فنانو عصر الحداثة. وقد تكون الأعمال المعروضة حاليا في "قاعة ساتشي" بلندن مناسبة لتأمل تحولات النحت المعاصر.
سوق الفن وخفاياه
ولأن "قاعة ساتشي" هي واحدة من أهم واجهات الفن في عصرنا، فإن عروضها يمكن أن تشكل بوصلة لحيوية السوق الفنية وقد صار مؤشرا خطيرا لما هو متداول من أعمال فنية. وفي ذلك ما يمكن الاعتراض عليه باعتباره دلالة على انزلاق الفن إلى مفاهيم السوق والذائقة المبتذلة. يعتقد الكثيرون أن "ساتشي" هي متحف وليست مجرد قاعة للعروض الفنية المؤقتة. ذلك ما توحي به المساحة الهائلة التي تحتلها وسط لندن بأبنيتها التراثية. ولكن الواقع يقول غير ذلك. ريتشارد ساتشي الذي هو يهودي من أصل عراقي صار إمبراطورا في السوق الفنية بعد أن أسس واحدة من كبرى شركات الإعلان في بريطانيا. وإذا ما كان قد فاز في السباق على أصحاب القاعات الفنية الأخرى بسبب "جائزة تيرنر" التي هي كبرى الجوائز في عالم الفنون البصرية، فإنه لا يزال يعرض قاعاته للإيجار. بمعنى أن العروض التي تُقام في قاعاته هي ليست دائما عروضه، إنما هي عروض الآخرين.