عرب في باريس... تواطؤ أنثوي في مدينة تشعر فيها أنك لا أحدhttps://www.majalla.com/node/311826/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%A4-%D8%A3%D9%86%D8%AB%D9%88%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D9%81%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D8%A3%D9%86%D9%83-%D9%84%D8%A7-%D8%A3%D8%AD%D8%AF
باريس: في معظم الكتب العربية التي قرأتها عن باريس لاحظت أنني اقرأ انطباعات مثقفين لا يكتبون أو يسجلون الحياة اليومية لهذه المدينة الصاخبة وإنما يذهبون في كتاباتهم إلى مناقشات فكريّة عن الفوارق بين الشرق والغرب أو بين العالم العربي وأوروبا، مع بعض الإشارات القليلة إلى تجاربهم أو يومياتهم الخاصة.
هؤلاء وهم شعراء وروائيون وفنانون ومفكّرون ما زالوا يتخذون من طرق كتابة الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك وفرنسيس فتح الله المرّاش والشدياق وحنا دياب والوَرْتَتانيّ طريقة لمنهجهم في الكتابة ولا نجدهم ينصرفون بالكامل إلى الحياة الباريسية اليومية، مع التنويه إلى وجود كتابات أدبية قد تختلف عن هذا المنحى لأحمد شوقي وبيرم التونسي وتوفيق الحكيم ويحي حقي وسيف الرحبي وأحمد المديني والحبيب السالمي وصموئيل شمعون وعيسى مخلوف وعصام محفوظ ورينيه الحايك وعلي مصباح وعشرات غيرهم.
قرأت في الأسابيع الماضية كتابين ينحوان في هذا الاتجاه نفسه، أوّلهما للشاعرة والرسّامة المغربية عائشة بلحاج بعنوان "على جناح درّاجة من طنجة إلى باريس"، وهو كتاب انطباعي عن أوّل زيارة للكاتبة إلى باريس، حيث راوحت بين ما تحمله في ذاكرتها عن المدينة وبين ما تراه في يومياتها التي بدت في رحلة سياحية قصيرة، ولهذا جاء الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة في 293 صفحة من القطع المتوسط، فالكاتبة لا تذهب إلى متاحف الفنّانين ومقابرهم، وإنما أيضا تتحدث عن سيرهم المحفوظة في ذاكرتها، فمعها نقرأ عن حياة رودان وكامي كلوديل وبيكاسو وريلكه وسيمون دي بوفوار وماري كوري وسيدوني غابرييل كوليت وأناييس نين وسوزان سونتاغ ومارغريت دوراس ومافيز جالانت وجوليا كريستيفا. وهي بهذا تخالف العرب الذين يذهبون فقط إلى الشانزليزيه ويلتقطون الصور هناك "كأنه رمز باريس الأبرز، بينما هذه المدينة تملك من الرموز ما لا ينتهي، وجلّها أهم من الشانزليزيه".
تمضي بلحاج مع فنون وأصوات وروائح وناس باريس وتقارب صخبها واضراباتها ورقصاتها
تمضي بلحاج مع فنون وأصوات وروائح وناس باريس وتقارب صخبها واضراباتها ورقصاتها "سيّدة ممتلئة في الأربعينيات من العمر، تضع سماعتين على أذنيها، وترقص. لم يقل لها أحد: أيتها العجوز. ولا: أيّتها العاهرة. ولم يجتمع حولها المتفرّجون والمتحرّشون. ولم يُصوّرها تافهون ويضعوها على اليوتيوب. لا شيء من ذلك حدث. بل رقصت وغادرت، كانّ العالم مكان آمن جدّا". وباعتبار أنّها لا تمضي في "رحلة سياحية، بل رحلة حبّ في باريس" كما تكتب، ستلاحظ أنّ "الرجال في باريس غيرُ مرئيين، لا نرى سوى المدينة والنّساء"، فوجودهم لا يقاس مع وجود المرأة فهو "يبدو شاحبا وهزيل الحضور أمامها، وأمام المدينة التي تنحاز إليها"، وفي هذا التواطؤ الأنثوي، حسب تعبير بلحاج، تلاحظ حركات الفتيات كالزهور في كلّ مكان حولها واللواتي "يظهرن للناظر إليهن بهيئتهن اليومية، قمصان خفيفة، سراويل جينز، أجساد متحرّرة من القوالب ومعفية من الزوائد".
وهذه الملاحظة ستكون منطلق الكاتبة لتناول حال المرأة في المشرق/ المغرب والغرب، حيث ذكرياتها في المجتمع المغربي الذي يراقب كل خطوات الفتاة، فيما هي في باريس "لا أحد"، أو "مجرّد كائن بشري يمشي". وستحضر شهرزاد ألف ليلة وليلة كمفصل في هذا التناول حيث تحفّز الكاتبة فينا السؤال حول فعالية هذه الحكّاية أمام شهريار، وإمكانية قيام شهرزاد بسلوك آخر غير الخضوع لمراوغة الحكاية التي حالت دون قتل بنات جنسها. فقصّة شهرزاد سوّقت كنموذج للمرأة الناجحة "التي لجأت للقصص لتنقذ حياتها" و "عُلّمت ألا تصرخ في وجه القاتل، وألا تركل عطشه الدموي. بل تبقى خائفة على حياتها، كلّ يوم، وتسقي خوفها بأسباب جديدة تواكب العصر".
كتاب بلحاج رحلة في الذاكرة والتأمل والمثاقفة بين علاقات إنسانية متشابكة
ومن هذه الأجواء الانطباعية والمكتسبة ثقافيا من قَبْل تمضي الكاتبة في تأكيداتها أنّ الرجل الأوروبي، أو الفرنسي خاصة، يشارك زوجته في الأعمال المنزلية، وهو تعميم لا يتلمس أحوال العائلات في البيوت الفرنسية فعلا ومدى مشاركة الرجل الفرنسي زوجته الأعمال المنزلية سواء حين يأتي الضيوف إليهم أو حين يكونان وحدهما. وهل هي مساعدة في هذه الأعمال أم مشاركة؟
مع هذا، تكمن أهمية كتاب عائشة بلحاج، لا باعتباره رحلة في باريس وإنما أيضا رحلة في الذاكرة والتأمل والمثاقفة بين علاقات إنسانية متشابكة رصدتها بمهارة كاتبة لها خبرة قراءة وحياة.
الكتاب الثاني بعنوان "حديث الضفاف: أسبوع في باريس" للكاتبين السعوديين طاهر الزهراني وآمنة بوخمسين، جاء في 108 صفحات، أي حوالي ثلث كتاب عائشة بلحاج، وقد أنجز إثر رحلة للكاتبين ضمن وفد أدبي يمثل بلدهما في فعالية أدبية. في البدء يتحدث الزهراني عن تطلعاته السابقة لزيارة هذه المدينة وكيف كانت أمّه تخشى أن يتحوّل إلى معارض سياسي إذا خرج من البلد مثل ابن جارتها. وحين يصل يمضي في مقاهيها ومطاعمها وشوارعها واصفا حركة الناس فيها. وهو ما تعمله آمنة حين تمضي في شوارع باريس مع الكاتب علي زعلة "خرجت تاركة الحقيبة والفندق المكتظ بالسياح، وخرج معي علي يحمل حرجه، وأحمل حرجي، حرج لا ينتمي لهذه الأرض، بل يمتد من أرضنا، أديب وأديبة من الشرق الأوسط في مدينة باريس، باختلاف عمري وجنسي. واختلاف جغرافي ومذهبي، كل هذا يتشكّل ويوضع على السطر هكذا: رجل شرقي في مدينة غربية، معه ابنة بلاده التي تصغره بسنوات".
ويغلب على كتاب الزهراني وبوخمسين السرد الوصفي، ولهذا جاء النص سلسا في ملاحظاته للأمكنة والأشياء وكأننا تقرأ قصّة رحلة. وهو مع هذا لا يخلو عن أسئلة الأنا والآخر و"أرضك" و"أرض الغير"، فبعد حمّام دافئ لا تلاحظ بوخمسين أن الجلد يمكن أن يعطي إحساسا حقيقيا بالنظافة والانتعاش "ما لم يكن الماء الذي اعتدته، الماء الذي كبرت به ونما جسدك عليه، وإن كان ماء بلادك أكثر ملوحة، وإن كان ذا نسبة تلوث أعلى. في النهاية أيا كان موطنك سيكون ماؤه الأفضل"، هكذا تقول باعتزاز.
يغلب على كتاب الزهراني وبوخمسين السرد الوصفي، ولهذا جاء النص سلسا في ملاحظاته للأمكنة والأشياء وكأننا تقرأ قصّة رحلة
ولا يخلو الكتاب من ذكريات زيارات الوفد إلى مؤسسات ثقافية مثل اليونسكو ومتحف اللوفر ومكتبة شكسبير وبيت فيكتور هيغو وقبر فان غوغ. ويلاحظ الزهراني أن الباريسيين لا يذهبون إلى منازلهم إلا للنوم، حيث يبقون في مطاعم المدينة ومقاهيها.
واللافت في الكتاب هو الانطباع السيئ للمؤلفين عن المعهد العربي في باريس، ربّما لأنهما لم يجدا من يستقبلهما، كما قالا، وهو ما لا يحدث عادة في المؤسسات الثقافية الفرنسية، فإذا لم تكن هناك مواعيد مسبقة حفاظا على وقت الطرفين فإن من الصعب أن تجد الشخص الذي تريد مقابلته. يقول الزهراني عن المعهد، الذي يُوصف من قبل معماريين بالتحفة الفنية، بإنّه "مبنى قبيح فيه مكتبة" وتصفه آمنة بـ "الصندوق المعدني البارد".
فهل كانا محقّين في انطباعهما هذا؟
ما يبدو لي أن المعهد، بعيدا عن مشاكله الإدارية التي لا تعنينا إلا إذا أثرت على النشاط الثقافي، يقوم بدور مهم في التعريف بالثقافة العربية، ليس من خلال فعالياته اليومية فحسب وإنّما أيضا من خلال مئات الزوار الذين يأتون يوميا لاقتناء الكتب من مكتبته وحضور عروضه المسرحية والسينمائية ومعارضه المتعلقة بالعالم العربي.