باريس: في معظم الكتب العربية التي قرأتها عن باريس لاحظت أنني اقرأ انطباعات مثقفين لا يكتبون أو يسجلون الحياة اليومية لهذه المدينة الصاخبة وإنما يذهبون في كتاباتهم إلى مناقشات فكريّة عن الفوارق بين الشرق والغرب أو بين العالم العربي وأوروبا، مع بعض الإشارات القليلة إلى تجاربهم أو يومياتهم الخاصة.
هؤلاء وهم شعراء وروائيون وفنانون ومفكّرون ما زالوا يتخذون من طرق كتابة الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك وفرنسيس فتح الله المرّاش والشدياق وحنا دياب والوَرْتَتانيّ طريقة لمنهجهم في الكتابة ولا نجدهم ينصرفون بالكامل إلى الحياة الباريسية اليومية، مع التنويه إلى وجود كتابات أدبية قد تختلف عن هذا المنحى لأحمد شوقي وبيرم التونسي وتوفيق الحكيم ويحي حقي وسيف الرحبي وأحمد المديني والحبيب السالمي وصموئيل شمعون وعيسى مخلوف وعصام محفوظ ورينيه الحايك وعلي مصباح وعشرات غيرهم.
قرأت في الأسابيع الماضية كتابين ينحوان في هذا الاتجاه نفسه، أوّلهما للشاعرة والرسّامة المغربية عائشة بلحاج بعنوان "على جناح درّاجة من طنجة إلى باريس"، وهو كتاب انطباعي عن أوّل زيارة للكاتبة إلى باريس، حيث راوحت بين ما تحمله في ذاكرتها عن المدينة وبين ما تراه في يومياتها التي بدت في رحلة سياحية قصيرة، ولهذا جاء الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة في 293 صفحة من القطع المتوسط، فالكاتبة لا تذهب إلى متاحف الفنّانين ومقابرهم، وإنما أيضا تتحدث عن سيرهم المحفوظة في ذاكرتها، فمعها نقرأ عن حياة رودان وكامي كلوديل وبيكاسو وريلكه وسيمون دي بوفوار وماري كوري وسيدوني غابرييل كوليت وأناييس نين وسوزان سونتاغ ومارغريت دوراس ومافيز جالانت وجوليا كريستيفا. وهي بهذا تخالف العرب الذين يذهبون فقط إلى الشانزليزيه ويلتقطون الصور هناك "كأنه رمز باريس الأبرز، بينما هذه المدينة تملك من الرموز ما لا ينتهي، وجلّها أهم من الشانزليزيه".