في نظرة إجمالية عامة إلى أحوال المشرق العربي اليوم، يبدو أن النظام الإيراني قد أوغل وتغول في تصديع الدول والمجتمعات العربية المشرقية، حتى تركها هباء منثورا.
لكن هذه الدول والمجتمعات لم تكن في أحسن حال قبل التوغل الإيراني فيها. بل إن إيران دخلتها أو تسللت إليها من تشققات وتمزقات كثيرة لابست بنيانها السياسي المختل، قبل نشأة إيران الخمينية وبرنامجها لتصدر ثورتها الإسلامية المذهبية.
لذا، فالوضع الراهن الذي يشتكي منه معلقون إعلاميون "استراتيجيون" في لبنان وسوريا والعراق، ووصولا إلى اليمن، ويلقون تبعاته كلها على إيران، لا يعفي من النظر في تاريخ تصدع هذه الدول ومجتمعاتها السابق زمنا على نشأة النظام الإيراني الخميني وحرسه الثوري، الذي أُوكلت إليه مهمة تصدير الثورة. أي تصدير دعوته أو صرخته الدينية المذهبية إلى جماعات مذهبية مشرقية، فغرس أو غذى فيها بذور انشقاقها على دولها، وأنشأ في صلبها منظماته وميليشياته الخاصة:
- "حزب الله" الذي استنزف لبنان الشديد الهشاسة، والمحكوم بميليشيات نُزِع سلاحها أو نحّته جانبا، وأدارها من دمشق نظام الأسد الأمني. وأخيرا تغوّل ذاك "الحزب" الإيراني وابتلع لبنان.
- ميليشيات مذهبية كثيرة في سوريا، استنجد بها نظامها- الذي ورثه ابن عن أبيه- لحمايته من الانهيار أثناء الثورة الشعبية عليه عام 2011.
- ميليشيات الحشد الشعبي في العراق، لمجابهة تنظيم "داعش" الإرهابي الذي هدّد في عام 2015، نظاما عراقيا بالانهيار، بعدما بُني على عجل، كيفما اتفق ومتشقق طائفيا، عقب إزالة أميركا نظام صدام حسين الديكتاتوري الدموي.
- وأخيرا ميليشيا "أنصار الله" الحوثية التي كانت قد نشبت بينها وبين نظام الرئيس علي عبدالله صالح حروب أربع. وهذا قبل أن يحالفها للعودة إلى الحكم، بعدما أسقطته ثورة شعبية عليه، فأقدمت الحركة الحوثية على قتله وزحفت على صنعاء واحتلتها.
طوال الحقبة المديدة بين أواخر الخمسينات وبداية "الربيع العربي" عام 2011، كانت حركات الإسلام السياسي بين مدّ وجزرٍ
لا لم تكن هذه الدول، إذن، مشرّعة لأعمال الحرس الثوري الإيراني فيها، لولا أزماتها البنيوية العميقة والكثيرة في أنظمتها السياسية. وهي أزمات، على الرغم من ترابطها وتلاحقها وتناسلها المديد (يعود أقله إلى خمسينات القرن العشرين) تنسى اليوم كأنها لم تكن. ويشمل النسيان أيضا ما كان يشغل- قبل عقود من الثورة الإسلامية الإيرانية- معظم الأفكار السياسية العربية: الدول العربية المشرقية وُلدت معتلّة غداة الحرب العالمية الأولى (1914–1918) وظلت غير مستقرة.
وفي نظرة استعادية على المدى الطويل، يمكن القول إن الدول العربية المشرقية الحديثة الناشئة بعد تلك الحرب، تصدّر المشهد السياسي والإداري فيها خليط من نخب اجتماعية واقتصادية وعسكرية ومتعلمة تعليما معاصرا وحديثا على المثال الغربي. وهذا على الرغم من التنوع والاختلافات في تكون تلك النخب الاجتماعي والثقافي، ومن التنافر في اتجاهاتها ونظرتها إلى طرق بناء الدول وإدارتها.
أما الجماعات الأهلية العامية الواسعة، والخالية الوفاض من تلك الحداثة، فظلت على هوامش المشهد السياسي والاجتماعي في الدول الوليدة. لكن مثال أبناء أجيالها الجديدة كان يستمد ديناميته ومعاييره وقيمه من الحداثة والتحديث الغربيين اللذين صاغتهما النخب في تلك الدول.
بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ونكبة فلسطين (1948)؛ حدث تغيير كبير في دول عربية كثيرة: انقلبت النخب العسكرية في سوريا ومصر والعراق، ثم ليبيا والسودان، على النخب المدنية الحاكمة، وأنشأت أنظمة قوموية ديكتاتورية أمنية، مدّعية تحرير الجماهير الشعبية أو العامية من التبعية للاستعمار الغربي. أي من حداثة النخب المدنية السابقة ومثالها السياسي والاجتماعي.
وبين الخمسينات والسبعينات لم ينجلِ ذاك الادعاء التحرري والتحريري، إلا عن هزائم قومية مدوية وحروب أهلية مدمرة: هزيمة يونيو/حزيران 1967. حروب أهلية في لبنان (1969-1990). وأخرى متلاحقة في اليمن (1962-1994). وحرب شبه أهلية وطائفية في سوريا (1979-1984) بين الإخوان المسلمين ونظام حافظ الأسد الأمني. أما الديكتاتور العراقي صدام حسين، فبعد توقُّف حربه مع إيران الخمينية (1980-1988)، قاده غروره إلى احتلال الكويت (1990) وتدمير العراق الذي غزته أميركا وتركته لقمة سائغة لإيران وحرسها الثوري.
طوال الحقبة المديدة بين أواخر الخمسينات وبداية ثورات "الربيع العربي" عام 2011، كانت حركات الإسلام السياسي وتياراته بين مدّ وجزرٍ في دول عربية عدة: في مصر، بعدما خنقها النظام الناصري (1952-1970)، استنهضها النظام الساداتي لمجابهة ما سمّاه "الفلول الناصرية". وبعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل (1978)، ظل الرئيس السادات يعتمد على الإسلام السياسي قاعدة اجتماعية لحكمه، حتى اغتالته خلية أصولية منه (1981). أما نظام الرئيس حسني مبارك (1981-2011)، فقد جابه الإسلام السياسي مجابهة عنيفة وزج أعدادا ضخمة من محازبيه وناشطيه في السجون، قبل سماحه لنخبة واسعة منه "تائبة عن العنف" بالدخول إلى مجلس الشعب (النواب). لكن منذ السبعينات وحتى اليوم، غرقت مصر في أسلمة اجتماعية وثقافية واسعة في نمط العيش ومشهد الحياة اليومية.
الموجة الأولى من ثورات "الربيع العربي" في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، تمكّن الإسلام السياسي من إجهاضها
وكان لانتصار الثورة الإسلامية الخمينية في إيران (1979) أثر بالغ في تنامي التيارات الإسلامية في بلدان عربية عدة، حتى في أوساط النخب اليسارية والقومية التي مالت فئات منها إلى اعتناق الخمينية. لاسيما في لبنان، حيث ولد "حزب الله" سنة 1985، وراح يتنامى في خضم حروب لبنان الأهلية-الإقليمية، قبل دخوله في حرب استنزاف دولة ما بعد الحرب ومجتمعها، حتى صدعهما وتركهما قاعا صفصفا بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019. وفي السودان وصل المشير عمر البشير إلى السلطة بانقلاب عسكري (1989) خططت له الجبهة الإسلامية الإخوانية، فتحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحكم السودان حكما عسكريا إسلاميا، حتى أسقطته سنة 2019 الموجة الثانية من "الربيع العربي" في الجزائر والعراق والسودان. وها هو السودان يغرق في حرب أهلية عاصفة بين وريثي نظام البشير العسكريين.
أما الموجة الأولى من ثورات "الربيع العربي" في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، فتمكّن الإسلام السياسي من إجهاضها، فيما كانت الفئات الشبابية وغير الإسلامية التي أطلقتها وتصدّرتها، شديدة الضعف والتشتُّت، وليس لديها إرادة سياسية للحكم. وحده الإسلام السياسي كانت لديه هذه الإرادة: في مصر وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة، فأزاحهم الجيش منها. وفي تونس لم يتمكن الحزب الإخواني من بلوغها وتصدّرها. وعلى الرغم من نجاة مصر وتونس من الحرب الأهلية، فإن مصر تعيش اليوم أزمة اقتصادية خانقة، وتعيش تونس في اضطراب سياسي واختناق اقتصادي، وغرقت ليبيا في حرب أهلية قسمتها شطرين وحكومتين.
أما لبنان وسوريا والعراق واليمن فتسرح في دولها الممزّقة والخاوية وتسيطر عليها ميليشيات الحرس الثوري الإيراني، التي تخوض بها وفيها حروب قرصنة برية وبحرية، متقنّعة بفلسطين وغزة حتى اكتمال تدمير المشرق العربي وغرقه الكامل في الفقر والجوع.