جاءت نشأة لبنان الحديث نتيجة لتقاسم الحلفاء المنتصرين تركة العدو المهزوم (ألمانيا والدولة العثمانية) بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد سنتين من الحرب صار البلد الجميل مستعمرا من قبل فرنسا في عام 1920. جمع هذا البلد الصغير في مساحته طوائف وأديانا وأعراقا كثيرة ومختلفة تجعل المرء يعجب أشد العجب من تجاروها، ففي لبنان يوجد الموارنة المسيحيون والمسيحيون الروم الأرثوذوكس أتباع الكنيسة الشرقية، والملكانيون والطائفة الأرمنية وهي تنقسم إلى أرثوذوكس وكاثوليك أيضا، وهناك المسلمون السنة والمسلمون الشيعة، والدروز، وهناك أقليات علوية وزرادشتية ويهود. وإذا فرغت من تعداد الأديان، عليك أن تعرّج على التمايز بين التيارات الفكرية المختلفة من شيوعية وليبرالية، وفي حالات لبنانية خاصة، هناك جمع بين الطائفة والفكر، كما في حالة الرجل الكبير كمال جنبلاط الذي جمع بين زعامة الحزب التقدمي الاشتراكي وزعامة الطائفة الدرزية مع ما بين الخطين من تناقض صارخ.
في 1943 خرج اللبنانيون كلهم بجميع طوائفهم مطالبين باستقلال بلدهم عن الاستعمار الفرنسي ففازوا بالاستقلال. صحيح أن بريطانيا في زمن رئيس الوزراء الشهير ونستون تشرشل كانت داعمة لهذا الاستقلال إلا أن بريطانيا لم تكن السبب الرئيس، بل كان وضوح الرؤية عند اللبنانيين ورغبتهم العارمة في الاستقلال والحرية. خرج الرجال والنساء من مسلمين ومسيحيين مطالبين بحقهم فنالوه وجرى انتخاب رئيس الجمهورية الأول بشارة الخوري المسيحي ورئيس حكومته رياض الصلح السُنّي كإعلان عن الميثاق الوطني الذي لم يُكتب على الورق. ولعقود طويلة عاش الوليد الجديد في سلام وتعايش حضاري عظيم بين اللبنانيين، على طريقة "لكم دينكم ولي دين".
لقد أسس اللبنانيون في تلك الفترة لأخلاق مدنية تُحتذى في كل المنطقة، عندما تكون الأخوة الوطنية مقدمة على أي اعتبار آخر، وأن يكون أمن الوطن وسلامته ورفاهه هي البوصلة. هذا النموذج كان ولا يزال محرجا لإسرائيل. لماذا؟
هذه هي معركة لبنان الحقيقية، وليست إطلاق الصواريخ من الجنوب على إسرائيل وجرّه إلى معركة تحرق الأخضر واليابس
لأن السؤال الأول الذي سيرد، على أي باحث عن الحقيقة، عند الحديث عن الصراع الجديد الذي نشأ في تلك الفترة بين العرب واليهود على أرض فلسطين هو: لماذا لا تكون فلسطين أرضا للجميع من يهود ومسيحيين ومسلمين مثل لبنان؟ الدولة المدنية هي الحل الصالح لمثل تلك البلاد ذات الإثنيات والأديان المختلفة. الجميع تحت القانون والجميع ينتخبون الحكومة التي تمثلهم، ثم ينتخبون غيرها عندما تفشل في تحقيق الأمن والرفاه لمواطنيها. دولة واحدة لا دولتين ولا دولا بعدد الطوائف. لا أعتقد أن شيئا كان يُحرج إسرائيل استراتيجيا مثل الوفاق اللبناني الذي كان.
كلنا نعرف أن الوفاق اللبناني لم يكن كاملا وأنه قام على المحاصصة الطائفية بدلا من الكفاءة المطلقة، وأن هناك عددا من الأخطاء القاتلة وقعت، وأن لبنان عصفت به التيارات المتنازعة، ابتداء من الناصرية ومرورا بحرب عبثية وانتهاء بإيران وحزب الله اليوم، إلا أن صورة لبنان الأولى ستقف دائما كنموذج يخجل الدولة العنصرية المجاورة له.
هذه هي معركة لبنان الحقيقية، وليست إطلاق الصواريخ من الجنوب على إسرائيل وجرّه إلى معركة تحرق الأخضر واليابس، فكل هذه المعارك الصغيرة ليست سوى امتداد لكل المحاولات القديمة لإبعاد لبنان عن النهوض بدوره.