أثارَ الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، الكثير من الانزعاج في أوروبا، عندما ذكر في إحدى خطبه الانتخابية أنه إذا أصبح رئيسا فإنه سيشجع روسيا على أن تفعل ما تشاء بخصوص أوكرانيا، وأن على دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن تدفع حصصها المالية الدفاعية في إطار الحلف، وإلا فإن أميركا، تحت قيادته، لن تحميها في حال تعرضها لاعتداء خارجي.
رغم أن كلمات ترمب تبدو فجة ومستفزة، فإنها في جوهرها العام، وليس في صياغتها، تعبر عن قيمة عميقة في الثقافتين الأميركيتين السياسية والشعبية: هيمنة الروح الانعزالية، وتغليب فوائد التجارة على روابط السياسة في التعاطي مع الآخرين.
كان هذا النزوع تأسيسيا في فهم أميركا لنفسها منذ بدايتها كبلد في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. ففي خطاب الوداع المشهور عام 1796 بعد انتهاء فترتيه الرئاسيتين كأول رئيس للولايات المتحدة الأميركية، نَصَح جورج واشنطن ساسة الدولة الوليدة بأن تكون "القاعدة العظيمة في سلوكنا، قَدرَ تعلق الأمر بالدول الأجنبية، هي أنه ينبغي علينا، فيما نُوَسعُ علاقاتنا التجارية معها، أن نحتفظ بأقل قدر ممكن من العلاقات السياسية معها،" محاججا بأنه ينبغي أن "تقوم سياستنا الحقيقية على الابتعاد عن الأحلاف الدائمة مع أي جزء من العالم الخارجي". في جذرها، تشكلت هذه الروح الانعزالية كرد فعل على أوروبا التي نَظرَ إليها الأميركيون حينها بارتياب شديد، بوصفها أرضَ التعصب والملكيات المستبدة والعداوات القديمة والحروب الدينية التي بمجموعها تسببت في البؤس والفقر والكراهية، ودفعتهم للهروب منها.
بذل الأميركيون جهدهم حينها لتمييز أنفسهم عن أوروبا والتعلم من أخطائها: رئيس منتخب لفترة محددة مقيد ببرلمان قوي، بدلا من ملك بصلاحيات مطلقة تقريبا مدعوما بطبقة من النبلاء، الاهتمام الشديد بالمصالح الاقتصادية بدلا من الانشغال بالدعاوى الدينية، والاستثمار في المستقبل بما يعنيه من فرص واحتمالات بدلا من الانغماس في الماضي الذي يقود إلى إحياء العصبيات وإشعال الصراعات. هكذا تم اعتبار الانعزال ضروريا للحفاظ على هذه التجربة الأميركية الجديدة و"الفريدة"، لأن التفاعل الكثيف وغير الضروري مع الآخرين- أوروبا خصوصا- سيعني سريان عدوى الأمراض السيئة التي هاجر الأميركيون من أوروبا هربا منها.