قدمت المرافعة المطولة لزعيم "حزب الشعوب الديمقراطي" صلاح الدين ديمرتاش طوال ثمانية أيام متتالية، في شهر يناير/كانون الثاني المنصرم، مادة استثنائية للنقاش الإعلامي والسياسي والثقافي في تركيا.
ديمرتاش، المُعتقل منذ عام 2016 بموجب "السجن الاحتياطي" مع عشرات آخرين من قيادات حزبه المؤيد للأكراد في تركيا، بسبب اتهامهم بالدعوة إلى مظاهرات غير مرخصة أثناء هجوم تنظيم "داعش" الإرهابي على بلدة كوباني/عين العرب الكردية في سوريا عام 2014، واتهامهم السلطات التركية بمحاصرة المقاتلين الأكراد في المدينة، والمساهمة الموضوعية في دعم تنظيم "داعش"، قدم أثناء مرافعته مادة سياسية تاريخية، تناولت أسس ومرتكزات المسألة الكردية في تركيا، نافيا أن تكون محاكمته مع قيادة حزبه ذات أساس جنائي، بل سياسي محض، تتعلق بما سماه "رهاب الدولة والسلطة الحاكمة في تركيا من الأكراد ومسألتهم".
النقاشات الإعلامية والمناخ السياسي الذي رافق مرافعة ديمرتاش، أعادت للأذهان ما حدث قبل ربع قرن، أثناء محاكمة زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، في صيف عام 1999. حيث إن أوجلان وقتئذ رفض مناقشة ورد الاتهامات الموجهة إليه وإلى حزبه، باعتبارها ادعاءات جنائية حقوقية، معترفا بكل ما نُسب إليه من أفعال، لكنه رفض الحكم عليها حسب قراءة ومرتكزات الدولة التركية وعقلها السلطوي، مطالبا بوضعها ضمن سياق سياسي تاريخي، يستند إلى الكشف عن أفعال الدولة التركية وإرهابها على الأكراد في البلاد، وتاليا قراءة ما فعله حزبه كدفاع عن النفس وردة فعل طبيعية تجاه قسرهم وهدر كرامتهم.
المحاكمتان المطولتان، منحتا الجمهور التركي العام فرصة استثنائية للاطلاع على رؤية فكرية وسردية سياسية عن الوقائع والتاريخ المعاصر لتركيا، تحديدا في ما خص المسألة الكردية وتشعباتها الأمنية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمناطقية، متباينة ومنافية تماما لمرتكزات ما هو سائد في التاريخ الرسمي المُعتمد في المؤسسات العامة للدولة في تركيا، التي يتم الترويج لها بكثافة وحميمية أيديولوجية متدفقة في المجال العام والرسمي في تركيا، في المدارس ووسائل الإعلام والجيش والرموز والمؤسسات الرسمية والقضاء، ويُقمع كل ما ينافيها أو يشكك بها، عبر قوانين وإجراءات خاصة.