الحديث المتواتر عن متغيرات اقتصادات الطاقة والجهود المستمرة للعديد من الدول الصناعية المستهلكة للنفط من أجل تطوير بدائل للوقود الاحفوري، يجب أن يدفع دول الخليج لصياغة استراتيجية اقتصادية طويلة الأجل لبناء اقتصادات متحررة من الاعتماد المزمن على النفط.
في الدول الصناعية، هناك دوافع تتعلق بمحاربة التلوث وتوفير بيئة طبيعية نظيفة، والحد من الانبعاثات الملوثة في مختلف مناطق العالم، وتبذل الدول كل جهودها من أجل الحصول على مصادر طاقة نظيفة وصديقة للبيئة. قد تتمكن الدول المنتجة أو المصدرة للنفط والغاز الحد من ثاني أكسيد الكربون من خلال تقنيات جديدة (Decarbonisation)، وربما بدأت دول خليجية بتطوير هذه التقنيات.
يتطلب التحرر من الوقود الاحفوري جهوداً كبيرة وصبرا، وقد لا يتحقق إلا بعد سنوات طويلة وربما عقود. وتبقى مسائل تتعلق باستخدامات الوقود وتكاليفه حيث يعتبر النفط والغاز من البدائل الأقل تكلفة قياساً بالموارد الأخرى.
صارت دول الخليج تعتمد على الدول الآسيوية لاستيراد نفوطها، أهم المستوردين الصين واليابان والهند. وتستورد هذه الدول النفط أيضا من روسيا وإيران، حيث تقوم الدولتان بإجراء حسومات مهمة على الأسعار المتعارف عليها لكسب الأسواق لاعتبارات سياسية معلومة
أهم التطورات الجارية، تلك التي تهدف إلى تطوير السيارات الكهربائية والهجينة والتي حققت نتائج لا بأس بها ولكنها لا تزال غير قادرة على إنهاء دور السيارات المعتمدة على مكررات النفط، وتواجه تحديات في توفير البطاريات ووسائط شحنها، وربما يحتاج الأمر الى سنوات قبل معالجة تلك التحديات.
صارت دول الخليج تعتمد على الدول الآسيوية لاستيراد نفوطها، أهمها الصين واليابان والهند. تستورد هذه الدول النفط أيضا من روسيا وإيران، حيث تقوم الدولتان بإجراء حسومات مهمة على الأسعار المتعارف عليها لكسب الأسواق لاعتبارات سياسية معلومة. لكن دول الخليج حققت قيمة مهمة لتجارتها مع الدول الآسيوية حيث بلغت 383 مليار دولار في عام 2021، وارتفعت إلى 516 مليار دولار في عام 2022، وهناك توقعات أن تصل قيمة هذه التجارة بين الطرفين إلى 757 مليار دولار في عام 2030. تدل هذه البيانات على أهمية العلاقات التجارية بين دول الخليج وقارة آسيا، وبالتالي ضرورة متابعة الأوضاع الاقتصادية في الدول الآسيوية لاستشراف استراتيجيات ملائمة تفضي إلى تحقيق المنافع لاقتصادات دول المنطقة.
تتمتع الدول الآسيوية بإمكانات متميزة وباتت اقتصاداتها من الأهم في الترتيب العالمي، مثل الصين والهند واليابان، وإلى درجة ما كوريا الجنوبية وتايوان، وقد تلتحق دول آسيوية أخرى بهذا الركب المتطور.
قد تبدو الاقتصادات الآسيوية ديناميكية ومتسارعة النمو، لكن هناك معوقات يجب الانتباه إليها، أهمها ما يتعلق بنمو الاستهلاك، حيث تتسم شعوب هذه الدول ببطء النمو السكاني وارتفاع أعداد كبار السن، وبالتالي انخفاض الرغبة في الاستهلاك التقليدي الخاص بالغذاء والسكن والوقود. فإذا تراجع الطلب على النفط خلال السنوات المقبلة، فيجب أن لا يكون ذلك مستغرباً، وإذا حيدنا المتغيرات الناتجة من متطلبات البيئة والتحولات في أدوات الإنتاج والتنقل، فإن المتغيرات الديموغرافية ستكون مؤثرة.
لا شك أن هناك تحولات اقتصادية مهمة في الصين والهند وعدد آخر من الدول الآسيوية بما يعزز مكانتها الاقتصادية وقدراتها الاستهلاكية، لكن على دول الخليج المصدرة للنفط التنبه الى التطورات وتأثيراتها على الطلب على النفط إيجاباً أو سلباً
قدر عدد السكان في الدول الآسيوية بـ4,8 مليار نسمة في عام 2024، في حين قدر معدل النمو السكاني بـ0.66 في المئة سنوياً. تأتي الهند والصين في المقدمة من حيث عدد السكان بنحو 1,4 مليار نسمة تقريباً، وبحسب التقارير الدورية للأمم المتحدة، هناك إمكانات لانخفاض عدد سكان الصين خلال العقود المقبلة حتى عام 2050 بنسبة 2,7 في المئة. أما من حيث متوسط العمر، فيبلغ معدل 33 سنة في الصين، في حين تصل نسبة من هم من الفئة العمرية التي تفوق 65 عاماً نحو 7,7 في المئة.
تختلف الهند في سماتها الديموغرافية إلى درجة ما مع الصين، حيث يبلغ العمر المتوسط للسكان 25 عاماً، في حين تصل نسبة من تجاوزوا الـ65 عاماً نحو 5,3 في المئة. إلا أن الأوضاع المعيشية في الصين أفضل من الهند، إذ يصل دخل الفرد السنوي في الصين إلى 2758 دولاراً، في حين يبلغ في الهند 2090 دولاراً.
لا شك أن هناك تحولات اقتصادية جارية في الصين والهند وعدد آخر من الدول الآسيوية بما يعزز مكانتها الاقتصادية وقدراتها الاستهلاكية خلال السنوات والعقود المقبلة. لكن يجب دول الخليج المصدرة للنفط أن تحترس وتراقب تلك التطورات وتأثيراتها على الطلب على النفط إيجاباً أو سلباً، من أجل وضع خطط اقتصادية وسياسات إنتاج نفطية ملائمة.
كما تستحق التحولات الجارية في أوروبا، التمعن وقياس مدى إمكان حدوثها في الدول الآسيوية وغيرها من الدول المستهلكة للنفط.، سواء تلك المتعلقة بحماية البيئة وخفض استهلاك الوقود الاحفوري، أو ما يتعلق بالمتغيرات الديموغرافية. بقي استيراد النفط من الدول الأوروبية متنامياً، حيث ارتفع من معدل 11 مليون برميل يومياً في عام 2011 إلى 15 مليون برميل يومياً في عام 2017. بعد ذلك، بدأ بالتراجع حتى بلغ 14,4 مليون برميل يومياً في عام 2022. وتستمر الولايات المتحدة كأهم المصدرين النفطيين إلى أوروبا بعد نروج، وبنسبة 13,6 في المئة من الواردات النفطية الإجمالية، في حين تصل نسبة النفط السعودي إلى 9 في المئة.
يفترض بدول الخليج معالجة الكثير من التشوهات وتعديل العديد من السياسات الاقتصادية، وإصلاح أوضاع المالية العامة، والتعامل بجدية مع أنظمة التعليم وفلسفة التنمية البشرية ومراجعة أوضاع أسواق العمل والتركيبة السكانية
هناك أهمية لدرس أسواق النفط ورسم خطط إنتاج وتصدير متوافقة مع المتغيرات المتحققة والمتوقعة كافة. لكن هل يمكن إنجاز تحولات اقتصادية مفيدة على الأمد الطويل؟ يتعين على الدول الخليجية معالجة الكثير من التشوهات وتعديل العديد من السياسات الاقتصادية وإصلاح أوضاع المالية العامة والتعامل بجدية مع أنظمة التعليم وفلسفة التنمية البشرية ومراجعة أوضاع أسواق العمل والتركيبة السكانية. لن تكون الأمور يسيرة وهناك الكثير من العراقيل والمصالح التي تكرست على مدى عقود طويلة، لكن إرهاصات الاقتصاد العالمي وما ينعكس منها على اقتصادات النفط والغاز، يجب أن تدفع إلى التعامل بجدية أكبر مع مختلف القضايا.
بداية، يجب أن تخفض دول الخليج مخصصات الإنفاق العام، وخصوصاً الإنفاق الجاري، وتسريع نقل ملكية العديد من المرافق والمؤسسات إلى القطاع الخاص، وتعزيز الانفتاح على الاستثمار الأجنبي وتطوير برامج التعليم والتنمية البشرية وتأكيد أهمية التعليم المهني. يضاف إلى ذلك، أهمية ضبط السلوكيات الاجتماعية للارتقاء بإنتاجية المواطنين وتخفيف اعتمادهم على هبات الدولة ورواتبها.
إذا كانت الدول الآسيوية هي المستورد الرئيس للنفط الخليجي، فيتعين متابعة أوضاعها الاقتصادية ومتغيراتها الديموغرافية. قبل فترة، أشار المراقبون إلى أن اليابان في صدد الخروج من الركود المزمن الذي امتد منذ بداية تسعينات القرن الماضي، إلا أن تقريراً لصندوق النقد الدولي صدر بتاريخ 8 فبراير/شباط، أكد أن معدل النمو سيتراجع، حيث أن أحد العوامل الذي أنعش الحياة الاقتصادية تمثل في تحسن اقتصادات السياحة، ولن يتكرر ذلك خلال هذا السنة الجارية. أشار التقرير أيضا، إلى ما سبق تأكيده في شأن شيخوخة المجتمع الياباني، وتأثير ذلك على الاستهلاك المحلي. مثل هذه الوقائع في الدول الرئيسة المستهلكة للنفط، تعزز المطالب الهادفة للتكيف وبناء استراتيجيات اقتصادية تمكن من مواجهة عواصف الاقتصاد العالمي. تملك دول الخليج إمكانات مالية تسعفها في الأوقات الصعبة، ولكن يجب أن لا يدفع ذلك إلى إهمال الإصلاح وتنويع مصادر الدخل والارتقاء بالبناء المؤسسي للاقتصاد وتطوير قدرات العناصر البشرية.