يشير جورج سيميل G. Simmel في مقالته الشيقة "الجسر والباب" (1909) إلى تكامل عمليتي الفصل والوصل: "فبينما يلح الجسر على الوصل، فإن الباب يجسد إلى أي حد لا يشكل الفصل والوصل إلا وجهين للفعل ذاته". يعتقد عالم الاجتماع الألماني أن الإنسان، على عكس الطبيعة، هو القادر وحده على الضم والتفريق، بحيث تشرط كل واحدة من العمليتين العملية الأخرى: "فمن خلال استخراج شيئين طبيعيين من النظام القائم لتعيينهما على أنهما منفصلان، فإننا نعمل فعلا على ربطهما عقليا بعضهما ببعض. وعلى العكس من ذلك، فإننا ندرك فقط تلك الأشياء التي عزلناها عن بعضها، على أنها متصلة. ينبغي أولا فصل الأشياء عن بعضها حتى يُلمّ شملها". وهكذا، سواء أأخذنا مفهومي الفصل والوصل، في معناهما الحقيقي أم في المعنى المجازي، فنحن الذين نفصل ما هو متصل، ونربط ما هو منفصل.
وحدهم البشر قادرون على بناء الطرق، ورسم المسارات. عادة ما يتغلب الحيوان كذلك على المسافات، وأحيانا بطرق بارعة ومعقدة، لكن نقاط الانطلاق والوصول تبقى عنده غير مرتبطة ببعضها، ولا تُولدُ معجزةَ المسار الذي يعطي الحركة شكلا ملموسا يُولَد فيها ويعود إليها. الإنسان هو مبدع المسارات والمسافات الرابطة بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول. إنه الكائن القادر على أن يدرك عند الوصول من أي نقطة انطلق، فيربط بين البداية والنهاية، ويحسب المسافة بينهما، بل هو الذي يستطيع أن يقارن المسافات والأبعاد فيدرك أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين.
بالنسبة إلينا فقط، لا تكون ضفاف النهر بعيدة بعضها عن بعض فحسب، بل منفصلة أيضا. إذا لم نقم مسبقا بربطها حسب حاجياتنا وخيالنا، فلن يكون لمفهوم الانفصال أي معنى. ولكن حينما نقيم ما يربط، وحينما نبني الجسور، يبدو أن الشكل الطبيعي يرحب بالمفهوم وبنوع من القصد الإيجابي، وهنا لدينا فصل فعلي بين العناصر والأطراف، بحيث يستطيع الذهن أن يصالح بينها.
الإنسان هو مبدع المسارات والمسافات الرابطة بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول
هنا يكمن المعنى الأكثر ثراء وحيوية للباب نسبة إلى الجسر، وهو يتجلى على الفور في حقيقة أن الاتجاه الذي يسلكه المرء على الجسر لا أهمية له، بينما بالنسبة إلى الباب، فإن فعلي الدخول والخروج يشيران إلى نية معاكسة تماما. الباب موجه هندسيا، ونحن مضطرون إلى أن نحدد عما إذا كان بابا للخروج أم بابا للدخول، أما الجسر فلا وجهة له، لأنه أساسا قنطرة ومعبر وعلاقة، إنه البين-بين مشخصا معلقا في الفضاء، فهو لا يُدخلك ولا يخرجك، وإنما يجعلك تعبر: فـ"نحننعبر الجسر، أما الباب فندخله أو نخرج منه".وإذا نظرنا إلى التناقضات التي تميزهما، فإن الجسر يوضح كيف يوحد الكائن البشري أضدادَ العالم الطبيعي من غير إدغام، أما الباب فهو يوضح كيف تُقسم وحدة العالم الطبيعي إلى عالم خارجي وآخر باطني.
وبما أننا يجب علينا أن نتمثل ضفتي النهر غير مبالين تماما كأطراف منفصلة لكي نوصل فيما بينها عن طريق جسر، وبما أن الانسان هو الكائن الذي يربط الأشياء، وفي الوقت نفسه، الكائن الذي ينبغي دائما أن يَفصل، ولا يمكنه أن يضم ويجمع إلا إذا ميز وقسم أولا وقبل كل شيء، فإنه، على حد قول سيميل، "كائنُ حدودٍ لا حدودَ تحده".
سيعطي مارتن هايدغر فيما بعد، لفعلي الوصل والفصل هذين، دلالات أقرب إلى الأنطولوجيا في ما كتبه عن الجسر، وهو يذهب إلى أن الجسر، بما يسمح به من قدرة على العبور، فإنه لا يكتفي بالربط بين ضفتين، وإنما "يأتي بالضفتين، بما هما كذلك، يأتي بهما إلى الظهور". صحيح أن الضفتين كانتا موجودتين حين لم يكن هناك جسر. لكن الجسر، رمز الوصل واللقاء، هو الذي يجعلنا نتبين انفصالهما عن بعضهما. يقول: "الجسر يوصل الضفتين إحداهما بالأخرى، ومن ثمة فهو يميز بينهما. بفضل الجسر تنفصل الضفة الثانية لتنتصب في مواجهة الأولى". تتمايز الضفتان بعضهما عن بعض بفضل الربط بينهما. لكن، إن كان الجسر يوصل فضاءين متباعدين فهو لا يوحد بينهما. بتعبير جيل دولوز، لنقل إن الجسر مولد الاختلافات. ما به يتلاقى المخالفان ويثبتان ذاتهما بفضل الاختلافات.
يظهر الباب بطريقة أكثر وضوحا كيف أن حقيقة الفصل والوصل ليستا سوى وجهين لفعل واحد
ما أبعدنا عن التركيب الجدلي الذي يصهر المتخالفين في وحدة تركيبية تطمس الاختلاف. نحن أمام توحيد لا يصالح بين الأضداد، وإنما يعرضها أمامنا متباينة مجتمعة في الحضور ذاته، وأمام وحدة لا تتوخى لحظة التركيب، واختلافٍ لا يرتد إلى التناقض، وهوية لا تؤول إلى تطابق. هذا هو المعنى الأصلي لكلمة اختلاف. يظهر أن هذا المعنى للاختلاف، لا من حيث هو تعارض بين نقيضين، بل من حيث هو ابتعاد يقارب فيما بين الأطراف المختلفة، هو المعنى الاشتقاقي لكلمة différence. يقول ج. بوفري، أحد أكبر شراح هايدغر: "لنتأمل كلمة اختلاف، différence هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفيا للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيري الذي يعني في الإغريقية، ثم في اللغة اللاتيني Feri، حمل ونقل (...) الاختلاف ينقل إذن، فماذا ينقل؟ إنه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافور فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعادا وفجوة... الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدا إحداهما عن الأخرى. إلا أن هذا الابتعاد ليس انفصاما. إنه، على العكس من ذلك، يقرب بين الطرفين اللذين يُبعد بينهما". على هذا النحو يُؤول م. فوكو مبدأ الهوية فالمساواة أ=أ، في نظره، تنطوي على حركة داخلية لا متناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد ذاته. ما يهم فوكو في هذه الكتابة، ليس الطرفين وإنما علامة المساواة من حيث هي قنطرة تصدع الذات وتفصلها عن نفسها وتجرها نحوها في الوقت ذاته. "يتعلق الأمر ببعد إيجابي بين المتخالفين: إنه البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان".
يعمد ج. سيمل إلى المقارنة بين الجسر والباب كي يبرز خصوصية الوصل الذي يعينه الجسر. فبينما يؤكد الباب، على الارتباط القائم بين الانفصال والاتصال يؤكد الجسر على الاتصال، وفي الوقت ذاته يتخطى المسافة المرئية والقابلة للقياس التي تفصل بين أطرافه وأعمدته. يُظهر الباب بطريقة أكثر وضوحا كيف أن حقيقة الفصل والوصل ليستا سوى وجهين لفعل واحد: "فعندما يحدث الباب وصلا بين فضاء الإنسان وكل ما هو خارج عنه، فإنه يلغي الفصل بين الداخل والخارج".