وتشاء الصدفة في ذلك اليوم، أن نجلس إلى طاولة واحدة، وقد شاركته الحوار بصحبة فنانين صديقين، وكان حديثنا حول الفن والهوية، ولم يتوقف حينها عن الحديث عن فلسطين، وكأن فلسطين عنده هي الموضوع الأول والأخير. وبعد عدة لقاءات جمعتني به، عرفت فيه فنانا يحمل كلّ الوقت الوطن وتفاصيله، لقد كانت فلسطين بالنسبة إليه بمثابة "الكانفس" الذي تتشكّل عليه لوحة الحياة.
سرد الواقع الفلسطيني
لم يكن غبن مجرد رقم، شأنه شأن جميع ضحايا القضية الفلسطينية الذين لم يتوقفوا منذ نكبة 1948 وصولا إلى الحرب الطاحنة الأخيرة في غزة. فقد حمل الفن مثل هوية ثانية، منشغلا به انشغاله بمأساة شعبه وذاكرته الحية. فقدّم للعالم صورة القرية الفلسطينية وطبيعتها، والشارع والمخيم بتعدّد هوياته، ورفع خلال رحلته من قيمة الإنسان وأبدى تمسكه بالجانب المتمرّد على الظلم المتمادي. ومع العمر تحولت رحلته الفنية إلى سرد للواقع الفلسطيني المأساوي، من التهجير والدمار وغياب المأوى والأمان.
وما بين الخيمة الأولى والخيمة الأخيرة، كان غبن ابن المخيم الأصيل، يجسد بريشته الواقع الفلسطيني وينقل قصة الألم المشتعل بأجساد المهجرين. فوضع في لوحاته ما خاف من محوه عبر الزمن، وأبقى الحقل فنا يدل على أثر الغائبين عنه قسرا، ورسم العرس الفلسطيني ليدلل على الفرح الذي كان، والحزن الذي حلّ. وامتلأت لوحاته بالحصاد الزراعي الفلسطيني، حتى لا يغيب لون الثمر ورائحة الأرض من ذاكرة الأجيال.
خارطة للأجيال
لم يقف الفن عند غبن عند حدود اللوحة، فهو خارطة تحفظ ذاكرة المكان للأجيال، فالبيت في لوحة هو الصورة الأصل للبلاد المحبوسة المحاطة بالسياج والجدران، أما الطين والحجر وثمرة الأرض، فهي الصوت الذي يخاطب به العالم، ويحتفظ من خلاله بهوية وطنه المهدّد دوما بالاحتلال والقضم.
أما الوجه الفلسطيني، بملامحه الحزينة، ونظراته المسترسلة نحو ماضي البلاد ومستقبلها المجهول، فكان فتحي غبن يريده شاهدا على تراجع القيم الإنسانية في عالم ترك الفلسطيني وحده في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وكأن ما بين الإنسان والمكان مجرد غبار يمكن مسحه عن سطح الذاكرة، فكان فن غبن محاولة دائمة لمقاومة محاولات محو الذاكرة.
كما اهتم غبن بالمرأة الفلسطينية، فقدمها بصورتها الريفية، وهي تحمل الفأس وتشارك الرجل في بناء الحياة، محملا إياها رمزية المشاركة في استعادة الوطن.
لم يكن يحتاج منظارا
لطالما أطل غبن على قريته هربيا، مكان المنشأ، على حدود بلدة بيت لاهيا، ولم يكن يحتاج إلى منظار ليرى الأرض التي حرم من زيارتها، فكانت قريته هي الحسرة، والألم الذي يراه خارج جسده، لكنه لا يستطيع التخلي عنه، فيحتضنه من خلال لوحاته، وكأنه الكأس الذي يمزج الطعم المر بنكهات الجمال المتعددة داخل لوحته.