لم يردْ مصطلح المتاهة بهذه الصيغة في المعاجم العربية القديمة، ولا في الأدب العربي النثري القديم، واقتصر على اشتقاقاته من فعل تاه يتوه تيها، في صيغ التوه والتيه والمتيهة والتيهان والتيهاء والمتْيَهة. كما في لسان العرب، حيث كلمة التيه هيالتوه مقرونٌ معناها بالهلاك، والجمع أتواه وأتاويه.
وأما معنى التائه قياسا على التيه، فمقرونٌ في لسان العرب بالجسارة في تدبير الأمور من جهة، ومن جهة ثانية بالحيرة والتكبّر والضلال.
كذلك يقترن معنى التيه بالصحراء، أو الأرض المجهولة التي لا يُهتدى فيها، بل يضلّ فيها الفرد والقوم على حدٍّ سواء.
على هذا النحو نسجتْ المعاجم والقواميس العربية القديمة، إذ استعمل التيه كمصدرٍ لفعل تاه، وظلّ مصدر التيه ملازما للصحراء موضع الضياع أو المفازة التي لا علامة يُهتدى فيها، أو الأرض عموما التي يذهب فيها المرء متحيّرا وعاقبته الهلاك.
مُجمل المعنى اصطلاحا ارتبط التيه بالهلاك والضلال في أرض مجهولة، كما ارتبط نفسيّا وذهنيّا بالحيرة.
لم تُستعمل صيغة مفردة المتاهة إلا حديثا في القواميس المعاصرة، وأمست تعني اصطلاحا موضع التيه، المكان الذي يضيع فيه الإنسان ويتحيّر
لم تُستعمل صيغةُ مفردة المتاهة إلا حديثا في القواميس المعاصرة، وأمست المتاهة تعني اصطلاحا موضع التيه، كما في معجم الغنيّ، وتعني المكان الذي يضيع فيه الإنسان ويتحيّر، كما في قاموس الرّائد، وتعني أخيرا سلسلة من الممرّات بعضها مغلق وبعضها مفتوح تستخدم لقياس قدرة الإنسان أو الحيوان على الاستفادة من الاختبار كما في قاموس المعاني.
حظي نقد المتاهة لدى الغرب، باهتمام واسع وتناول متعدّد ومتجدّد، سواء عبر الدراسات النقدية التي خصّصت للموضوع، تنظيرا وتطبيقا، أو من خلال أنطولوجيات وقواميس رصدت تجلياته قديما وحديثا، بالاستناد إلى تاريخ الأسطورة والأدب.
تتبوأ متاهة كريت اليونانية التي صنعها ديدالوس بحسب الأسطورة الإغريقية، المكانة المركزية أو الأصلية التي بُنيتْ عليها معظم تأويلات هذا النّقد، إذ لم تصلنا من العهد القديم سوى نماذج قليلة، يظلّ أهمّها على الإطلاق، نموذجان ساطعان كما كتب عنهما هيرودوت: نموذج متاهةجزيرة كريت اليونانية، ونموذج المتاهة الفرعونية.
وفي الأزمنة الحديثة، نشأ الاهتمام النقدي بالمتاهة من خلال أعمال كاتبين بارزين، أحدهما أوروبي، والآخر أميركي لاتيني، هما: كافكا وبورخيس. قبل أن يصير للمتاهة أدبٌ أخذ يتقوى ويتشعب ليتطور ويغدو لازمة حداثية في الكتابة السردية العالمية، غربا وشرقا، فأضافت أسماءٌ روائية لاحقة لسرد المتاهة ظواهر جديدة، واختُلقتْ أشكال مبتكرة لها، وأنماط معقدة لكتابتها وبنائها الفني، إذ ارتبطت كتابةُ المتاهة بالفانتازيا من جهة، ومن جهة ثانية ارتبطت بأدب الجريمة أو الرواية البوليسية، فضلا عن أنّ المتاهة لم تقتصر فقط على حدود كونها فضاءً معقدا ومرعبا في الكتابة الروائية الحديثة، بل أعمق من ذلك بكثير، إذ تتمظهر بصورٍ متعدّدة، كأسلوب في الكتابة، وكرؤية ومعمار وتقنية مؤسسة على نمط وجود، وهذا ما نبغت رواياتٌ حداثية ذات نزوع تجريبي، في ترسيخه وجعله ظاهرة كونية في السرد الحديث، لعلّ أهمّها وأبرزها يحسب لهؤلاء الأسماء القوية: الأرجنتيني خوليو كورتاثار في روايته "لعبة الحجلة" والإيطالي إيتالو كالفينو في روايتيه "مدن لامرئية" و"قلعة المصائر المتقاطعة" والإنكليزي جون فاولز في روايته "زوجة الملازم الفرنسي" والأميركي بول أوستر في روايته "ثلاثية نيويورك" والياباني هاروكي موراكامي في روايته "كافكا على الشاطئ" وكذلك رواية "اسم الوردة" للإيطالي أمبرتو إيكو، على سبيل المثال لا الحصر.
تتقاطع الرواية البوليسية والرواية السوداء في الغالب مع المتاهة فيما يشبه متلازمة، بالنظر إلى الاشتباكات بين النوعين
في سياق حديث الأخير عن اختياره للرواية البوليسية كنموذج للحبكة في روايته "اسم الوردة"، والذي يصفه الأكثر فلسفيّة وميتافيزيقيّة من حيث اللّحمة، يبرّر أمبرتو إيكو الاختيار برغبته في أن يكون الشيء الرائع الوحيد، هو ذاك الذي يقشعرّ له القارئ تلك القشعريرة الميتافيزيقيّة.
ويمضي في تفسيراته بصدد هذه الميتافيزيقيا البوليسية بأن يؤكد أنّ ما يثير إعجاب النّاس في الرواية البوليسية ليس ما تتضمّنه من جرائم بالضرورة، وإنما لكونها تمثّل "قصّة تخمين في حالتها الخالصة". وهي بذلك تشترك مع الفلسفة في مبدأ حالات التّخمينات والحدوس والافتراضات. بل إنّ مسألة الفلسفة الأساس، في واقع الأمر، هي نفسها في الرواية البوليسية. وبالنظر إلى ذلك فالرواية البوليسية تتشعّب من قصة أساس إلى قصص أخرى، لأنها تتمحور حول آليّة التخمين والافتراض والاحتمال. وهكذا يخلص إيكو إلى قاعدة أساسية: "إنّ العالم المجرّد للتخمين والافتراض هو المتاهة".
ومن هنا،كانت الحاجة إلى البحث عن متاهة ملائمة لروايته "اسم الوردة" التي يُصنّف شكل أو نوع متاهتها ضمن محور المتاهة المصطنعة مع اطراد يجعلها أيضًا جذموريّة بالفهم الدولوزيّ.
تتقاطع الرواية البوليسية والرواية السوداء في الغالب مع المتاهة فيما يشبه متلازمة، بالنظر إلى الاشتباكات بين النوعين كما هو مشار إلى ذلك آنفا، غير أنّ المتاهة في المجمل، استُعملت كشكل هندسي في الحكاية والسرد في تشييد البنية النصية للأعمال الأدبية، على غرار نصوص بعض الأساطير التي وصلتنا من التراث السومري والبابلي والفرعوني واليوناني والروماني وغيره.
ومن أهمّ النصوص السردية القديمة التي يمكن اعتبارها متاهيّة بصورة من الصور، يمكن الإشارة إلى كتاب الموتى الفرعونيّ وألف ليلة وليلة ورسالة الغفران والكوميديا الإلهيّة... قبل أن تتشعّب وتتضاعف في ألعاب الفن التشكيلي والهندسة المعمارية والسينما والعوالم الإلكترونية اللانهائيّة.