تشتعل وسائل الإعلام والتواصل منذ أسبوعين، بإنجازات شركة "إنفيديا" الأميركية، صانعة الرقائق الميكروية وأشباه الموصلات، والأرقام القياسية التي تحيط بها من كل حدب وصوب. كما ضجت "وول ستريت" بالارتفاع المذهل للقيمة السوقية للشركة خلال عام واحد، من نحو 400 مليار دولار في بداية 2023 إلى نحو 1,22 تريليون دولار في نهاية العام المنصرم، وتابعت ارتفاعها الصاروخي في الشهرين الأولين من السنة الجارية لتلامس عند إقفال الأسواق يوم الجمعة الماضي تريليوني دولار وهي تفوقت بالفعل في أدائها على شركة "أمازون" وعلى عتبة تخطي "ألفابت".
فما سر هذا الازدهار غير المسبوق؟
مَن يتابع تطورات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتسارعة خلال عام واحد فقط منذ إطلاق روبوت المحادثة "تشات جي. بي. تي." في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وهو أحد المنتجات الثورية لهذه التكنولوجيا، قد لا يفاجأ بالنتائج التي حققتها "إنفيديا"، ولا تزال تشق طريقها صعودا، محققة إيرادات بلغت 22 مليار دولار في الربع الأخير من 2023، بزيادة 265 في المئة عن العام السابق، وأحصت الشركة دخلا صافيا بقيمة 12,3 مليار دولار في الربع نفسه، مرتفعا 769 في المئة عن العام الأسبق.
نتائج "إنفيديا" ومثيلاتها تذكّر الأسواق بأن "صناعة الرقائق" هي الأساس والركيزة لكل نظام أو روبوت أو سلاح أو تطبيق قائم على الذكاء الاصطناعي، وهي المعيار لتصنيف الدول العظمى اليوم
صحيح أن الشركة أطلقت حديثا برنامج محادثة مفتوح المصدر يدعى "آر. تي. أكس." (RTX) يقدم جانبا متميزا عن بقية البرامج المماثلة مثل "تشات جي. بي. تي." و"جيميني" و"كوبايلوت"، في كونه يعمل من دون الحاجة إلى الانترنت، إلا أن أساس هذه القفزة النوعية هو صناعة الرقائق الميكروية.
ربما شكلت "إنفيديا" الخبر الأبرز لما اقترن بها من أرقام تريليونية، إلا أن أحداثا كثيرة أخرى توالت في الأشهر المنصرمة تؤكد التوجه السائد حاليا وعلى المديين القريب والمتوسط في استكمال تأسيس البنية التحتية الحقيقية (الملموسة) والصلبة لتقدم الذكاء الاصطناعي في كليته، بعيدا من آلاف "التطبيقات والمنصات الدعائية" الفاشلة في معظمها، والتي تحاول الاستفادة من موجة "تشات جي. بي. تي" لا أكثر. وكانت ليزا سو، الرئيسة التنفيذية لشركة "AMD" - إحدى أبرز الشركات المصنعة المنافسة لـ"إنفيديا" – توقعت في نهاية العام المنصرم أن يصل سوق الرقائق الميكروية الى 400 مليار دولار في حلول 2027، فيما تشير التقديرات الى أكثر من ذلك اليوم.
نتائج "إنفيديا" ومثيلاتها في صناعة الرقائق، تذكّر الأسواق المالية والبورصات بأن "الصناعة" هي الأساس والركيزة والمنطلق لكل نظام أو روبوت أو سلاح أو تطبيق قائم على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهي المعيار لتصنيف الدول العظمى في العالم بحسب قدراتها الانتاجية الصناعية داخل بلادها، ووجود الشركات المصنعة على ترابها، أو في جغرافيا موالية أو تحت هيمنتها العسكرية المباشرة.
"العز لصناعة الرقائق"
لا نعلم إلى متى تحافظ "إنفيديا" على صدارتها، فأي تقلب في أسهم الشركة وأرباحها، لن يكون ناجما عن تقلب مماثل للتقنية نفسها فحسب، بل أيضا لخطط الشركات الكبرى مثل "مايكروسوفت" و"أمازون" و"غوغل" وغيرها، وهي من عملاء "إنفيديا"، التي تتقدم بخطى ثابتة وتزيد المنافسة احتداما في سعيها للدخول إلى عالم الرقائق المشغلة لبرامجها القائمة على الذكاء الاصطناعي، لا سيما خدمات الحوسبة السحابية، ناهيك بمخططات الصين والهند وإيلون ماسك وموكيش أمباني وأمثالهما.
كانت الولايات المتحدة تنتج نحو 40% من الشرائح الإلكترونية في العالم قبل عقود، لتنخفض هذه النسبة إلى 12% اليوم، وتعرض حاليا عشرات مليارات الدولارات لاجتذاب مصانع جديدة للرقائق وأشباه الموصلات الى أراضيها
فوفقا لمجموعة "سينرجي ريسرش غروب"، نما إنفاق الشركات على خدمات البنية التحتية السحابية بنسبة 18 في المئة على أساس سنوي، على الرغم من المناخ الاقتصادي والسياسي المضطرب، وذلك دليل واضح على أن تكنولوجيا وخدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي تدفع الطلب إلى الارتفاع. كما أن الحصة السوقية العالمية لمقدمي الخدمات السحابية الثلاثة الكبار، "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، تقدر بـ66 في المئة، وكلها شركات أميركية.
وكانت الولايات المتحدة تنتج نحو 40 في المئة من الشرائح الإلكترونية في العالم قبل عقود، لتنخفض هذه النسبة إلى 12 في المئة حاليا. وفي العام المنصرم رصدت 53 مليار دولار، لإقناع شركات تصنيع أشباه الموصلات بنقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، ولكن يبدو اجتذابها ضئيلا ومتواضعا في سوق تحفل بالتحديات والفرص، كما تفتقر الولايات المتحدة الى المهارات المتقدمة جدا التي تحتاجها صناعة أشباه الموصلات بنقص يقدر بنحو 70 ألف موظف، ناهيك بهيمنة الشركات الكبرى فعليا على مسار هذه الصناعة، مما يقلل حظوظ الناشئة منها.
مليارات الشركات تتفوق على مليارات الدول
لا شك أن الاستقلالية التي تتمتع بها الشركات التكنولوجية العملاقة في التمويل، تشكل العنصر الرئيس المشغل للذكاء الاصطناعي، ونتلمس جانبا مخيفا منها وهو السعي التنافسي وراء الربح المادي مهما كلف الثمن، والهيمنة دونما أي اعتبار للتهديدات الوجودية، أو سوق العمل. للمفارقة، لا ينفك قادة هذه الشركات يتحدثون عن هذه الأخطار في مؤتمرات وقمم شتى.
وسط عصف المليارات والتريلونيات، كان لافتا كلام الرئيس التنفيذي لـ"أوبن إيه. آي." سام ألتمان، عن عزمه اجتذاب استثمارات بقيمة سبعة تريليونات دولار من مستثمرين، بينهم دولة الإمارات، لإقامة مصانع للرقائق الميكروية
ينسحب الأمر نفسه على الاتحاد الأوروبي الذي أتاح تمويلا يزيد على 46 مليار دولار، وعلى اليابان التي أقرت توزيع 13 مليار دولار على شكل إعانات لصناعة أشباه الموصلات، والهند التي تعمل على إنشاء منظومة خاصة بها لصناعة الشرائح الإلكترونية. وعلى سبيل المقارنة، أعلنت "إنتل" منفردة استثمار 33 مليار دولار في ألمانيا، هذا عدا الخطط التوسعية لشركات رائدة مثل "شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات" (TSMC)، التي تستأثر بإنتاج 90 في المئة من الشرائح الأكثر تقدما في العالم، وتبني مصانع جديدة في ألمانيا واليابان بالإضافة إلى استثماراتها في أريزونا، وشركة "سامسونغ"، التي تبني مصنعا جديدا للشرائح الإلكترونية بقيمة 17 مليار دولار في تكساس، وتنفق أضعاف هذا المبلغ لتوسعة تصنيع أشباه الموصلات في موطنها كوريا الجنوبية.
وفي المملكة المتحدة، تبرز شركة "آرم" (Arm Holdings)، وهي إحدى شركات تصنيع الرقائق أيضا، التي ارتفع سهمها نحو 60 في المئة، وتضاعفت قيمتها السوقية إلى 125 مليار دولار منذ إدراجها على بورصة "ناسداك" في سبتمبر/أيلول الماضي، مدفوعة بارتفاع الطلب على الرقائق الذكية. وانسحب أداء "آرم" على "سوفت بنك" الياباني، الداعم للشركة والمالك 90 في المئة من أسهمها، الذي انتقل، بين عام وضحاه، من نهر الخسائر بـ5,2 مليارات دولار، إلى ضفة الانتعاش، بتسجيله أرباحا بلغت 6,4 مليارات دولار في الربع الثالث من العام المالي للشركة المنتهي في نهاية 2023. وفي جعبة المصرف ملفات مشاريع للاستثمار في الذكاء الاصطناعي تقدر بـ100 مليار دولار منها لتصنيع أشباه الموصلات، وكذلك في شركة "أوبن إيه. آي." التي سجلت عوائد بملياري دولار العام المنصرم، و"آي. فون. فور. إيه. آي.".
إننا على الأرجح، في طور الانتقال من الرأسمالية الاقتصادية كما عرفناها بحسناتها وسيئاتها، إلى "الرأسمالية الرقمية الذكية"، التي تلوح أخطارها واحتكاراتها ويبدو أنها أشد إيلاما، وأكثر توحشا
لا بد من الإشارة، وسط عصف المليارات والتريلونيات، الى كلام الرئيس التنفيذي لـ"أوبن إيه. آي." سام ألتمان، عن عزمه اجتذاب استثمارات بقيمة سبعة تريليونات دولار من مستثمرين، بينهم دولة الإمارات، لإقامة مصانع للرقائق الميكروية، ولهذا حديث آخر، لا سيما اذا ما وضعنا "الحوكمة" ضمن معايير التقييم.
ينظر المتفائلون الى الذكاء الاصطناعي على أنه فرصة غير مسبوقة لاكتشاف "عقل روبوتي" ما، يبتكر حلولا لمشاكل الكوكب الغارق في دماء فوضى الحروب والمجاعات وتغير المناخ، إلا أن من يتحكم بهذه التقنية وأمنها السيبراني هم من أثاروا كل هذه الفوضى في الأساس، لذا يبدو مستبعدا أن تتحقق تلك الصورة الوردية الموعودة، بل كل الخوف من أن نسيء استخدام "الذكاء التكنولوجي" كما أسأنا استخدام ما أتيح لنا من موارد على مر العصور. إننا على الأرجح، في طور الانتقال من الرأسمالية الاقتصادية كما عرفناها بحسناتها وسيئاتها، إلى "الرأسمالية الرقمية الذكية"، التي تلوح أخطارها واحتكاراتها ويبدو أنها أشد إيلاما، وأكثر توحشا...
على هامش اجتماعات المجلس الأميركي الأوروبي للتجارة والتكنولوجيا في الشهر المنصرم، قالت وزيرة التجارة الأميركية، جينا ريموندو، "علينا أن نعمل معا، وألا ينافس بعضنا بعضا. لا يمكننا أن نسمح للشركات بأن تدفعنا إلى التنافس والاختلاف في ما بيننا". كم يبدو كلامها ساذجا أو ماكرا.