خلال العقد الماضي ومع اندلاع أحداث ما سمي "الربيع العربي"، ولاسيما في سوريا، ساد اعتقاد بأن أحد المتغيرات الرئيسة التي تحصل في المشرق العربي، يتمثل في أن شرائح واسعة من مجتمعات المنطقة تحولت إلى قضاياها الداخلية عوض البقاء أسيرة منطق الصراع العربي- الإسرائيلي على حساب حرياتها السياسية وتطور مستويات عيشها.
وهنا برز توجهان متناقضان تناقضا جذريا، الأول رأي "محور الممانعة"، وهو أن ما يحصل هو بدفع خارجي لتعميم الفوضى في الدول المعادية لإسرائيل وإلهائها عن "القضية المركزية"، وفي المقابل برز رأي قديم لكنه عاد إلى الواجهة، وهو أن التغيير السياسي في "دول الطوق" يخرج المسألة الفلسطينية من دائرة التوظيف ويخلق بالتالي دينامية اجتماعيا وسياسية "صادقة" ومؤثرة لدعم حقوق الفلسطينيين . لكن في الحالين انخرط الجميع في الصراعات الداخلية والحروب الأهلية بما في ذلك "حماس"، وابتعدت المسألة الفلسطينية عن مسرح الأحداث والاهتمام، ولو أن أحد عناوين تلك الصراعات كان التناقض بين السردية "الرسمية" للمواجهة مع إسرائيل والسردية الرافضة لتوظيف "القضية" من قبل الدولة والأحزاب "المقاومة" لبناء منظومات سياسية واجتماعية مغلقة وجامدة.
هذا الوضع تغير الآن، فبعد فشل "الربيع العربي" عادت المسألة الفلسطينية، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى واجهة الأحداث مع مأساة جديدة وكبيرة في غزة تضاف إلى مآسي شعوب المشرق. لكن هذه العودة لا تقتصر فحسب على مراكمة مشاهد الأسى وما تولده في النفس من انطباع بأن هذه المنطقة مكتوب عليها العيش في ويلات متناسلة لا تنتهي، بل إنها عودة سياسية بامتياز بالنظر إلى الربط بين الحرب الجهنمية في قطاع غزة ومستقبل المنطقة بأكملها، وبما هو أبعد من المشرق العربي.