تخبرني السيدة الفلسطينية التي لجأت إلى خيمة في رفح، أن من يملك بيتاً في قطاع غزة، يعني أن له جذوراً ضاربة في التاريخ وفي الجغرافيا، أن يظلّ البيت واقفاً وسط الدمار، يعني أنه حصل على شهادة "الحق الذي لا يضيع"، أن تدمّره غارة، وجب احتسابه في عداد الشهداء، أن يُعيد بناءه بعد الحرب، يعني أنه انتصر على عدوّه مرتين.
مفاد حديثها أن البيت في غزة أهم عنصر في هوية الأرض المبني عليها، لذلك نشهد هذا الجنون الإسرائيلي، لمحو مربّعات سكنية في المدن والأحياء والمخيمات في غزة، من الوجود، البيت الفلسطيني هو هدف عسكري بالنسبة للإسرائيلي، لأنه يشكّل تحدياً لوجوده، لروايته عن أرض بلا شعب، يعرّي كذبته التاريخية عن عمرانه أرضاً لا يسكنها أحد.
كثيرون في الشمال رفضوا الخروج من بيوتهم، ليس لأنهم لا يهابون الموت، أو لأنهم يملكون قلوباً وأعصاباً من حديد، بل لأن البيت في وجدانهم هو منطقتهم الوحيدة الآمنة، بعكس المستوطنين الذين غصّت بهم المطارات منذ اليوم الأول للحرب، الذين هجروا بيوتهم – معسكراتهم، حتى تلك التي ليست في دائرة الخطر.
فالمستوطنون ليس لديهم ما يربطهم ببيوتهم المرقّمة في المستعمرات، ولا بالأرض المُقامة عليها، كان لهم جذور في أماكن أخرى، وحين قصّوها، تحوّلوا إلى كائنات هوائية، يطيرون مع كل ريح، يعاودون الهجرة لأي سبب أو حتى من دون سبب، يجمعون حقائبهم ويغادرون برشاقة سائح، لا جذور تشدّهم إلى التراب، أو تمكّنهم من الوقوف على الأرض.
أما الفلسطيني فيكتسب وجوده من وجود البيت وبالعكس، هذه العلاقة التبادلية بين البيت وصاحبه، تجعل من الأول كائنا له روح وجسد واسم وعنوان، ومن الآخر كتلة صلبة لها حيز مكاني وزماني، فالبيت برهان الفلسطيني الساطع على أنه مالك الأرض، وكلما كان البيت قديماً ومتوارثاً من جيل إلى جيل، كلما كان أكثر خطورة على الرواية الصهيونية، وصعّب مهمة نشرها وانتشارها، فالجذور الأكثر قدماً وعمقاً، يحتاج اقتلاعها إلى جهود مضنية وأساليب مبتكرة، في عملية اختلاق الأكاذيب والادعاءات والدعايات، وإلى تصنيع صواريخ أدق توجيهاً وقنابل أكثر ذكاء، وإلى إنتاج أطنان مضاعفة من المواد الشديدة الانفجار، ورصد المزيد من الميزانيات وأموال الضرائب من خزائن الرجل الأبيض.
البيت الفلسطيني هو هدف عسكري بالنسبة للإسرائيلي، لأنه يشكّل تحدياً لوجوده، لروايته عن أرض بلا شعب
الرجل الأبيض نفسه، الذي يبني في بلاده ناطحات السحاب والأبراج والقصور والبيوت المتناسقة، ويظلّ مرتعباً من البيوت الصغيرة، الضيقة، المتلاصقة، الجدار على الجدار كاللحم على العظم، في مخيم جباليا وبيت لاهيا وغزّة وخانيونس ودير البلح ورفح وأخواتها، فيصرف الثروات والأموال الطائلة التي جباها وكدسها، لمحوها.
والبيت ليس ملكية مادية فحسب، بل قيمة معنوية تعبّر عن جوهر الذات، البيت مثل اللغة الأم، لا يفهمها الغريب، ولا يدرك حساسيتها، ويظل غير منسجم مع أدواتها وتعبيراتها، حتى لو تعلّمها، لأنه ليس مالكاً أصيلاً لها، والمالك غير الأصيل للبيت، يظل غريباً عن البيت حتى لو أقام فيه زمناً، والبيت شرط موضوعي لفكرة الوطن، لتشكيل الهوية، لا وجود للبيت من دون وجود وطن، ولا وطن من دون بيت، والمهاجر اليهودي هو منطقياً سائح، وليجعل نفسه مواطناً، أول ما يبحث عنه عند وصوله، هو العنوان، ولا شيء غير البيت يمنحه ذلك، من هنا، تبرز هذه الشراهة المترافقة مع الشراسة في تدمير بيوت الفلسطينيين في غزّة ومصادرتها في القدس الشرقية وما حولها، ولأجل هذا أسس حزباً سمّاه "إسرائيل بيتنا"، وأطلق على جهاز الاستخبارات اسم "شين بيت"، مقابل ذاكرة فلسطينية ملأى بالبيوت: بيت حانون، بيت لاهيا، بيت المقدس، بيت لحم.
لا تشبه البيوت نمطها في فلسطين، النمط الأوروبي أو الأميركي، هناك نوع من الهوية الخاصة للبيت الفلسطيني، توزيع الغرف، الأبواب، الشبابيك، المطبخ المفتوح على الحديقة الخلفية، منشر الغسيل، حنفية الماء في الحديقة، تفاصيل هندسية لا يعرف الغريب لماذا صُممت وكيف، ولا طريقة استخدامها أو دواعيها.
بينما الكتل الإسمنتية المرقّمة في المستوطنات، لها نمط وليس هوية، هي نسخ متشابهة، مربّعات متراصّة الصف خلف الصف، لا لون ولا طعم ولا رائحة، ولا حياة ولا شخصية، كأنها معسكرات اعتقال، يتم فيها تجنيد المهاجرين لا إسكانهم، ويظل الواحد منهم نزيلاً، من ساعة حصوله على المفتاح، حتى ساعة بيعه لنزيل آخر.
ليس جديداً هذا الاندفاع الوحشي لتدمير بيوت غزة، بل هو جزء من مسلسل حاقد، ينفّذه الاحتلال الإسرائيلي منذ عام النكبة
كثرة الانجاب عند الفلسطيني والغزّي بالذات، تكثيف لفكرة البيت، يتكدّس الفلسطينيون في البيت ليصير أثقل، فكلما ثقل البيت كلما ترسّخت علاقته بالتراب، وتوطّدت معرفته به، وتعمّقت فيه جذوره، وقد ابتدع الفلسطينيون تقنيات فريدة لتوسيع فكرة البيت؛ الولادات أبسطها وأكثرها تعقيداً، بخاصة البيت الضيق، القليل الغرف، الممتلئ إلى أقصاه، بالأنفس والأنفاس والأصوات والأفواه، فيخرج المولود قبل أن يتعلّم المشي، إلى الشارع، ليصبح الشارع والحي جزءا من البيت، وينضم إليهما بيت الجيران كذلك، ويظلّ البيت يتّسع حتى سابع جار، من الجهات الأربعة، فتصبح الأرض كلها بيوتاً وأبوابا تفضي إلى أبواب إلى أبواب، حتى تبلغ باب الجنة.
الخلاصة، ليس جديداً هذا الاندفاع الوحشي لتدمير بيوت غزة، بل هو جزء من مسلسل حاقد، ينفّذه الاحتلال الإسرائيلي منذ عام النكبة، بصفته أحد تجليات الهوس المرضي بالحصول على الهوية عبر انتزاع هوية الآخر، وأحد تمظهرات العقد النفسية التي تتحكّم بالمحتل تجاه صاحب الأرض.