يشكل الشيعة الاثنى عشرية نسبة وازنة على ساحل الخليج العربي تتراوح بين كونهم أكثرية في بلد (البحرين) أو منطقة (شرق السعودية) أو نسبة عالية (الكويت) أو أقليات (الإمارات، قطر، عمان). ويرجعون في شؤونهم الدينية، إلى المرجعيات الكبرى العابرة للحدود والتي تتخذ من العراق وإيران مقرات لها.
ومنذ قيام "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979، لم تُخفِ دول الخليج قلقها تجاه العلاقة مع مراجعهم الدينيين الذين يقيمون خارج الحدود. وبالرغم من كون تاريخ المجتمعات الشيعية على ساحل الخليج سابقا على تحول بلاد فارس إلى دولة ذات أغلبية شيعية في القرن السادس عشر الميلادي، فإن قيام حكومة دينية شيعية، بالتزامن مع زعامة المجتهدين الإيرانيين في العراق، ضاعف من قلق حكومات دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصا في ضوء التأثير الإيراني الواضح في المشهد اللبناني منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي العراق منذ إسقاط نظام حزب "البعث" عام 2003.
دعوات محلية
في الآونة الأخيرة، تصاعدت دعوات بعض المجتمعات المحلية الخليجية مدعومة ببعض رجال الدين المحليين إلى تصدي مرجع خليجي من أجل أن تكون القيادة الدينية نابعة من رحم المجتمع الخليجي. حيث إن تقليد المواطنين الشيعة لمجتهدين أجانب وإرسال الحقوق الشرعية إليهم (الخُمس والزكاة والصدقات) قد يتضمن الوقوع في مخالفات للقوانين المحلية، بل ويثير تساؤلا حول ازدواجية الولاء، خاصة وأن دول مجلس التعاون تنظر لإيران بوصفها دولة توسعية تهدد مصالحها، وهذا ما دفع بعض الأصوات في تلك الدول إلى حد اتهام الشيعة بعدم الولاء لدولهم العربية على حساب الولاء "للجمهورية الإسلامية". كما أن ظهور مرجع من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي قد ينهي مشكلة التوتر الطائفي، وسيساعد بكل تأكيد في إزالة الشكوك.
وبالنظر إلى التغيرات السياسية والاجتماعية السريعة في دول مجلس التعاون الخليجي، فقد لا يمر وقت طويل حتى نرى أحد المؤهلين للمرجعية يعلن تصديه لهذا الموقع، خصوصا وأننا نقترب من بدء "مرحلة ما بعد السيستاني" (يبلغ عمر المرجع الأعلى السيد علي السيستاني 93 عاما).
وفي الوقت الحالي، يعتبر السيد السيستاني الشخصية الأعلى في هرم القيادة الدينية الشيعية، ومن الواضح إحجام المجتهدين البارزين عن طرح مرجعياتهم احتراما لمكانته. لكن مرحلة ما بعد السيستاني ستترك فسحة لعدد من المؤهلين للتصدي للمرجعية، ومن ضمن هؤلاء علماء دين سعوديون وبحرينيون. وفي ضوء التوتر الحالي بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وهو أمر يضع مواطني مجلس التعاون في موقف حرج جدا، فإن خلافة السيستاني من قبل مرجع من مواطني دول الخليج لن تكون مجرد صعود مرجعية فرد وإنما ستكون حدثا سياسيا سيؤثر على احتمالية قدرة إيران على التأثير على شيعة هذه الدول، وهذا أمر جيو-سياسي يحتاج صناع القرار السياسي إلى الاستعداد للتعامل معه في المرحلة المقبلة.
عودة للتاريخ
تاريخيا، فإن الشيعة في الجانب العربي من الخليج كانوا يقلدون مراجعهم المحليين، بل إن المرجعية المحلية كانت تهيمن على مجتمعات المنطقة حتى تراجع نفوذها في الربع الثاني من القرن العشرين. لقد أدت وفاة آخر المراجع المحليين وعودة موجة من الطلاب الخليجيين من النجف ليكونوا وكلاء لمراجع العراق الكبار إلى تغيير في بنية التقليد من المرجعيات المحلية إلى المرجعيات العابرة للحدود. لقد نال المراجع المحليون في تلك الفترة احترام قادة المجتمع وحكام المنطقة، خاصة أن معظم هؤلاء المراجع ينتمون إلى عوائل عريقة في المنطقة. كانت تلك العوائل متمكنة من تقديم الدعم المادي لأبنائها الذين يرغبون في الدراسة الدينية من أجل أن يتفرغوا للدراسات الدينية في مرحلة ما قبل النفط، حين كانت معظم الأسر تحتاج إلى جهود جميع أبنائها حتى توفر قوت يومها. في الوقت نفسه، كان أفراد الأسر العريقة يتقاسمون النفوذ، إذ يمتلك التجار وأصحاب الأرض النفوذ الاجتماعي والاقتصادي بينما يمتلك رجال الدين منهم السلطة الدينية. بعد ذلك توسعت دائرة القادرين على الانتظام في الدروس الدينية لتشمل أبناء الأسر الأخرى فهاجر عدد منهم إلى النجف للدراسة في الحوزة ليعودوا بعد ذلك بصفتهم وكلاء لمراجع النجف الكبار في وقت تزامن مع وفيات كبار المراجع المحليين.
طلاب النجف
ضمت موجة طلاب النجف العائدين إلى البحرين والمملكة العربية السعودية في النصف الأول من القرن العشرين عددا من رجال الدين ذوي التعليم العالي الذين بدأوا في الترويج لـ"آيات الله العظمى" المقيمين في العراق من أمثال السيد أبو الحسن الأصفهاني (ت 1946)، والشيخ محمد رضا آل ياسين (ت 1951) والسيد محسن الحكيم (ت 1970). وحين انقسمت المرجعية بين النجف وقم بعد وفاة الحكيم استمر تقليد المرجع الأعلى في النجف إذ بدأ المتشرعون بتقليد السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1992). وبعد وفاة السيد الخوئي قلد معظم شيعة الخليج محمد رضا الكَلبايكَاني الذي توفي هو أيضا بعد وفاة السيد الخوئي بعام واحد.