نكأ الكاتب بجروح الحرب في روايته الثانية، "خريف الدفلى" (الهيئة العامة السورية للكتاب، 2020)، التي نالت جائزة حنا مينا. اختلف مع الكثيرين في تصوير مدينة دمشق بكونها الأم الرؤوف والقديسة، بل هي المدينة التي تناوبت على قتل أبنائها على دفعات، لم تعد المهرب بل أصبحت المفر، "في زمن الحرب يصبح الحزن قوتنا اليومي... يمر صباحا على كل بيت ليطبع قبلة على جباهنا... يقتات من مآقينا تاركا آثار قدميه على عتبات قلوبنا".
يرى رشيق، وهو صاحب مجموعة قصصية بعنوان "أريد شمسا"، أن على الكاتب قراءة جميع أنواع الأدب حتى الرديء منها لأنها تساعده في غربلة الأفكار من فائضها اللغوي وتصفيتها من شوائب الحشو كونه يقرأ بعين الكاتب وليس القارئ دون أن ينكر فضلها في أن تكون شرارة لقصص لاحقة.
ثأرٌ حديث نسبيا يجمع رشيق مع دمشق التي أخذت أخاه بعد أن تكفل انفجار تحويله إلى أشلاء. هذا الألم المحض تمكن الكاتب من سكبه في الجانب الروائي (خريف الدفلى) كنوع من تخفيف وطأة الوجع عبر الكتابة عنه والولوج فيه. يقول لـ"المجلة": "ممتن للألم الذي جعلني أكتب على الرغم من كراهيتي العميقة له، شعرت بالذنب عندما نلت جائزة عن روايتي لأنني أحسست للحظات أنني تسلقت على جثة أخي، ولولا حزني الغائر عليه لما كتبت صفحات الرواية".
زياد العامر و"الذين لا يذنبون"
لم تكن عبارات التوبيخ التي كان يردّدها الأب على مسامع ابنه زياد العامر لحثه على الدراسة وإنجاز الفروض المدرسية تأتي بنتائج حقيقية، بل جاءت بمفعول عكسي انتهت بالتهام عيني طفل العاشرة من العمر صفحات مجلة "العربي" الكويتية دون أن يعي الكثير من مفرداتها، وهي المجلة اليتيمة التي كانت تصل بالخطأ إلى منزله في مدينة السلمية بحماة.
كما أن حركة التمرد التي قام بها حين صار مراهقا أثناء تسلقه أسوار المدرسة مع رفاقه، ما هي إلا مصادفة قدرية قادته إلى أحد المراكز الثقافية في مدينته، ليجد نفسه أمام سؤال أكبر من عمره: "أي كتاب تريد؟"، ليجيب دون تردد: "أريد كتابا لألبر كامو". كان قد التقط اسمه مرات عدة على صفحات الجريدة التي كان يطالعها خلسة أكثر من كتب المدرسة، ليكون هذا أول احتكاك معرفي مع رواية "الغريب". عن ذلك يقول زياد (1985) لـ"المجلة": "كنت أستعير هوية والدي قبل أن أصدر واحدة لي عند بلوغي الرابعة عشرة، نادرا ما كنت أبرزها إلا عندما أستعير الكتب والروايات أو أرهن الأفلام كنوع من الضمان، كنت أتنقل بين المدن السورية دون الحاجة إلى بطاقتي الشخصية التي كانت حبيسة الأدراج، لكن عندما حلت الحرب، صارت لا تبارح جيبي أبرزها ثلاث مرات على الأقل للمرور على الحواجز الأمنية". يرى زياد أنه "كلما زاد تشبثنا بوثيقة ما لتدل على هويتنا تقلص انتماؤنا".
يجنح صاحب رواية "الذين لا يذنبون"، وهي الرواية البكر التي صدرت عن "دار كنعان" عام 2016 إلى منهج التجريب الروائي ضاربا بعرض الحائط البنية الأساسية للرواية، يخالف المعتاد ويجانب السائد لصالح الفكرة التي تقفز على باله ليدع نفسه رهينة للحظة الكتابة، وكأنه يحمل لافتة كتب عليها "أنا المجرب" التي يتوارى خلفها ويشهرها دفاعا في وجه أي جملة اعتراضية على أعماله أو في نقاش مفتوح. يقول: "أنا اختبئ خلف كلمة المجرب، مستعد للتضحية بالأحداث، التشويق، بالكتابة الاحترافية والبنية الأساسية للرواية في سبيل تقديم الفكرة دون الرجوع إلى أي خطة سردية مسبقا".
في روايته الأولى التي يصفها بـ"المراهقة"، سلك العامر طريق الجرأة الجنسية والدينية، فأدّى ذلك إلى تدخل الرقابة وإيقاف النشر لبعض الوقت. يصور فيها مدى ضخامة مدينة دمشق أمام كل المدن والقرى الريفية السورية وشعور الوافد إليها بالضآلة التي تسلبه بساطة الريف والطيبة الساذجة.
يعلق العامر: "لا أحد يستطيع تجاوز دمشق... دمشق ليست مدينة كريمة، فأنت فيها تعمل لساعات طويلة من أجل الفتات، لكني أحبها على الرغم من بُخلها وقسوتها أكثر من مدينتي التي سكنتها لأكثر من 18 عاما. استولت عليّ بجمالها المتفرد متفوّقة على جمال مدينتي ومتجاوزة إياها في اتساع حدود الوحدة. كلما اتسعت المدينة زاد الشعور بأنك وحيد، هذا الأمر لا تفعله القرية التي تقتحم مساحتك الخاصة دون استئذان".
يرى الكاتب الذي برصيده مجموعة قصصية، "سبعة فاصلة اثنين"، أن الحرب السورية "جعلت منا أناسا لا يتوانون عن التكشير عن أنياب الشر دون خجل وخوف، كما أنهم عاجزون عن بترها لأن ذلك يعني فناءهم وموتهم من الجوع"، يقول: "حولتنا الحرب إلى أنياب، يأكل بعضنا بعضا دون رحمة بدءا من سائق سيارة الأجرة الذي يحصّل أضعاف الأجرة، وصولا إلى بائع الخضر، فالجميع لديه أنياب يأبى قصها والاستغناء عنها".
لم يتجنب زياد المأساة السورية ليستدعيها طازجة في "وكر النمل" (2021)، مشبها حشودها المجتمعة بالكتلة البشرية السورية التي تقترف فعل النجاة عبر التكاثر فقط كأداة احتجاجية وضمان عدم إبادة السلالة السورية، تماما كما تفعل مجتمعات النمل.
لماذا نكتب؟ متى نتوقف؟
الكتابة التي لا تتوقف عند مي الخالدي بل قد تتأخر، "هي سرد الروح، هي حديث الأنا التي طمرتها زحمة الوجود، هي المتنفس والمعنى الذي يضفي القيمة على حضورنا في هذه الحياة، الكتابة مرآتي التي تظهرني بالصورة التي أتمنى أن أراها في انعكاسي. دون الكتابة، أنا نسخة ناقصة عن ذاتي".
الخيال فقط الذي يرفض بالاعتراف بالحدود هو ما يدفع الشابة إلى حمل القلم والتحليق في الكتابة. سعيها الدائم لتحدّي ذاتها وطمعها بتحقيق حلم والدها يجعل منها كاتبة عنيدة تحيل شخصياتها على لحم ودم وليس مجرد شخوص تتجوّل على الورق.
يعتقد زياد العامر أن وحدها الفكرة هي التي تدفعه لاقتراف الكتابة ولو كانت على حساب إزاحة اسمه من لائحة غزيري الإنتاج الروائي، فالأصل هو الفكرة، يقول: "يجب على كل رواية أن تقدم فكرة جديدة ومفيدة للقارئ، أنا ابن أفكار وليس مشاعر، وسأتوقف عن الكتابة فقط عندما تنفد أفكاري".
إذا كانت الكتابة نوعا من التطهير بالنسبة إلى رشيق، فإن التوقف عنها لا بد أن تسبقه حالة من تعطيل للحواس وشعور باللا جدوى من الكتابة في حد ذاتها، يعقب قائلا: "أتوقف عندما أفقد إحساسي إزاء الأشخاص والأشياء، حين أعجز عن تكوين مواقف تجاه التفاصيل".
رسالة الكتابة
تكتب مي الخالدي كنوع من الإنصات الى أصوات المهزومين والفقراء الخافتة الذين لا يلتفت إليهم أحد في هذا العالم دون أن يكون لها أمل في إحداث تغيير، تقول لـ"المجلة": "اليوم لم يعد للأدب سلطته السابقة كما كانت الحال قبل اندلاع ثورة التكنولوجيا، في السابق كانت الكتب والصحف والمجلات بوابتك الأولى نحو العالم وتفاصيله، لذا كانت قادرة على تحريك المشاعر والأفعال أيضا".