ينهض السيناريو على شخصية غادة، التي تؤديها النجمة منى زكي، ووجود مُنى بالتأكيد هو أحد أهم عوامل قوة العمل سواء على المستوى الجماهيري أو على المستوى الفني، لا سيما بعد التفاعل الإيجابي للمشاهدين مع مشاركتها في مسلسل "تحت الوصاية" الذي عُرِض في النصف الثاني من موسم رمضان الماضي. إلى جانب منى، نتابع في "الرحلة" أفضل أداء مُمكن لتشكيلة من الممثلين الآخرين، حتى وقد رأينا بعضهم في أدوار مُشابهة من قبل، وهم: محمد ممدوح، محمد فراج، شيرين رضا، خالد الصاوي، حسن العدل، عارفة عبد الرسول، سما إبراهيم، محمد علاء، جيهان الشماشرجي، رنا رئيس، نورا شعيشع، شادي ألفونس.
تتشكل شخصية غادة من مجموعة من التفاصيل المشغولة بعناية: مشيتها السريعة المُتبخْترة شيئا ما، لفة حجابها الذهبي كعصا تُمكسها من المنتصف بين رضا المجتمع ورضا الدين، لكنتها الثقيلة في نطق كلام حمَّال أوجه على حسب علاقتها بالمُتحدِث، ثيابها ذات الألوان الزاهية، تؤكد بها قوتها، على الرغم من ضعفها الجلي. غادة على الشاشة، أو منى زكي في أحد أهم أدوارها وأكثرها تركيبا حتى الآن، أداؤها طاغٍ، آسر، لا يُمكن الاكتفاء بمتابعة الأحداث، إنما علينا باستمرار ملاحقة غادة في رحلتها الدائرية حول نفسها، في هذه المباراة الشرسة بينها وبين القدر.
هذه "الغادة" لا تُمثل فقط نفسها وهي ليست استثناء في المجتمع المصري، من حيث أنها امرأة مُعيلة لعائلتها. حسب دراسة منشورة للهيئة العامة للاستعلامات المصرية عام 2023، فإن هناك ما لا يقل عن 12 مليون امرأة مصرية تتكفل كُليا بالإنفاق على أسرتها. تتصدَّر غادة المشهد الأسري في انسحاب مُخزٍ للأب، وابتزاز عاطفي من الأم، وعبء شقيقة أصغر. وقد عملت لفترة في الماضي، كما نعرف فورا من زيارتها لصديقتها شهيرة، كبائعة هوى. لا يُخاطبنا الفيلم بأسلوب مباشر، إنما يُعطينا مع توالي الأحداث نبذة عن طبيعة الوالدين المُنسحبين من مسؤولياتهما، الغاضين الطرف عن زلات ابنتهما، ما داما يستفيدان من هذه الزلات. إنها وحيدة، في مجتمع ذكوري، بلا شخصيات رجولية شهمة، ليس هناك سوى ذئاب ناهشة، ولا مكان للشعارات الجوفاء لمُجتمع الشرف.
بأسلوبه اللماح يُعبِّر هاني خليفة باختزال عن موقف الأب، أليس من المفترض أنه الحصن الحامي لابنته؟ في عبارة حوارية عابرة، تقول غادة: "طيب هي صهينت عشان الفلوس غيرها صهين عشان الوش ووجع الدماغ!"، أي أن الأم صمتت عن مسلك ابنتها لاستفادتها المالية، أما الأب فسكت لأسباب أكثر تفاهة.
إذن، كيف كان يُمكن لغادة ألا تصير لما آلت إليه فعلا؟ وكيف تتحمل وحدها عِبء الخطيَّة، بينما الجميع مُشتركون في اجتراحها؟
"أنا طالعة أحج!"
ومع ذلك، فإن "الرحلة 404" لا يُكرس نفسه لمحاولة تبرئة غادة أمامنا كمُشاهدين، ولا كذلك محاولة مُحاكمتها، فهذه المهمة الأخيرة متروكة للذكور الذين ستلتقيهم غادة على طول رحلتها. على العكس، يُفضِّل أن يلعب معنا لعبة أخرى من المراوحة. غادة ليست النموذج التقليدي للمومس السابقة، أو "للمرأة ذات الماضي" كما يُحب المجتمع تسميتها. إنها ليست المنحلة على طريقة الغواني في أفلام حسن الإمام، وهي ليست ضحية المجتمع البائسة التي تعرضت ذات مرة للاغتصاب فتحوَّل طريقها إلى الدعارة. بل هي في المنتصف تماما. لعبت الشهوة بجميع مستوياتها دورا حيويا في تشكيل مسارها: الشهوة إلى الجسد، إلى المال، إلى السيطرة، والسطوة والنفوذ عن طريق العلاقات. غير أنها تحت ضغط حدث مؤسف، لا يُسهب الفيلم في وصفه، تتخلى مضطرة عن هذه العوالم، وتبحث عن "توبة" ما بالمعنى المُجتمعي قبل المعنى الديني. هذا السعي إلى التكفير يتمثل في فكرة الحج.
إن عبارة "أنا طالعة أحج!"، التي تُرددها في عدة مناسبات، أمام القوادة شهيرة، تؤدي دورها شيرين رضا، وهي تُرغبها وتُهددها في الوقت نفسه كي تعود إلى الطريق القديملمرة واحدة وربما أخيرة، وأمام السيدة التي لاقتها صُدفة في البناية ذاتها التي تقع بها شركة الرحلات، ومع كل موقف تشعر خلاله أن الحياة القديمة تُناديها، تبدو بها غادة كأنما تُذكِّر نفسها، وترجوها، بأنه من سبيل إلى العودة. ولعلّ الاختيار، كان ليصير أسهل لو أن هذه الغواية حدثت في زمن آخر، لا تلوح فيه رحلة الحج، مثل إشارة حمراء، تُحذرها من التمادي.