في نهاية يناير/كانون الثاني، فُصل باحث أسترالي لبناني المولد يُدعى غسان الحاج من منصبه في "معهد ماكس بلانك" للأنثروبولوجيا الاجتماعية، الذي تدعمه وتموله الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات في ألمانيا. وقتها أعلن أن سبب الفصل كان معاداة السامية التي ارتكبها غسان الحاج حين نشر تغريدة إثر رؤيته الطريقة التي يعامل بها الجنود الإسرائيليون أسراهم في غزة. كتب الحاج ما يلي:
"يحب الإسرائيليون أن يقولوا إن ما يفعلونه في غزة يشبه ما فعله الحلفاء في درسدن. ولكن هذا ليس صحيحا. لم يحاول الحلفاء أبدا إذلال شعب درسدن. أما العنف الإسرائيلي فيشبه إلى حد كبير العنف النازي المعادي للسامية في هذا الصدد من حيث قوته التدميرية ورغبته في الإذلال، ومن حيث سوقيته".
طبعا من المحتمل جدا أن تكون التغريدة قد انتهكت المبادئ التوجيهية التي وضعها التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA)، الذي يصنف فعل مقارنة السياسة الإسرائيلية الحديثة بالممارسات النازية شكلا من أشكال الخطاب المعادي للسامية. لكن هذا ليس الإطار الوحيد المتاح لمثل هذه الأمور. يقدم إعلان القدس مجموعة بديلة من المبادئ التوجيهية التي تهدف إلى تحسين معايير التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. وعلى الرغم من أن الإعلان لا يتناول بشكل صريح المقارنات مع الأعمال النازية، إلا أنه يؤكد على ما يلي:
"إن مقارنة إسرائيل بحالات تاريخية أخرى، بما في ذلك الاستعمار الاستيطاني أو الفصل العنصري– حتى لو كانت مثيرة للجدل– ليست، في حد ذاتها، معادية للسامية".
ويضيف (في القسم 11):
"ليس من الضروري أن يكون الخطاب السياسي محسوبا أو متناسبا أو معتدلا أو معقولا حتى تتم حمايته بموجب المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان وغيرها من صكوك حقوق الإنسان. إن الانتقادات التي قد يراها البعض متطرفة أو مثيرة للجدل، أو تعكس (معايير مزدوجة)، ليست في حد ذاتها معادية للسامية. بشكل عام، الخط الفاصل بين الخطاب المعادي للسامية وغير المعادي للسامية يختلف عن الخط الفاصل بين الخطاب المعقول وغير المعقول".
ولذلك، لا بد للمرء من أن يتساءل لماذا كان "معهد ماكس بلانك" شديد الحساسية تجاه تلك المقارنة التي قد تكون، في أسوأ الأحوال، بغيضة؟
لا تدندن بلحن من فاغنر
في مشهد لا يُنسى، يجد لاري ديفيد نفسه في طابور خارج دار الأوبرا، وبسبب الملل، يبدأ في تصفير مقطوعة موسيقية لفاغنر. أثار هذا الفعل غضبا من شخص يهودي آخر يقف خلفه، والذي غضب لأن لاري كان يدندن نغمة من تأليف معاد للسامية سيئ السمعة. تصاعدت المواجهة، وبلغت ذروتها حين وصف الرجل لاري بأنه "يهودي كاره لنفسه".
تعكس هذه الحادثة المناقشات التي أبرزها حوار جرى في المجلة الراقية "غرانتا" وشارك فيه جورج بروشنيك، وإيال وايزمان، وإيميلي ديش بيكر، حيث دقق الثلاثة في ديناميكيات العلاقة بين الألمان واليهود. تشير إميلي ديش بيكر، نقلا عن خبيرة الدراسات اليهودية هانا تزوبيري، قائلة: "يبدو الأمر كما لو أن هناك رابطة حصرية بين اليهود والألمان، حيث يُنظر إلى جميع الآخرين على أنهم غرباء".
كثيرا ما تؤدي العلاقة المعقدة والمستبدة أحيانا بين ألمانيا وإسرائيل إلى مواقف محيرة تتحدى الفكر التقليدي. يصف إيال وايزمان المسؤولية التي فرضتها ألمانيا على نفسها للتمييز بين اليهود الطيبين والأشرار، بناء على انحيازهم أو معارضتهم للمفهوم الإسرائيلي للدولة القومية العرقية، حيث يقاوم هؤلاء اليهود السيئون النموذج الإسرائيلي للدولة القومية العرقية لصالح دولة الشتات، التي تكون غير قومية وفي بعض الأحيان غير صهيونية وأحيانا معادية للصهيونية.
ويعلق وايزمان قائلا: "لقد أصبحت ألمانيا مرة أخرى من يحدد الهوية اليهودية، أليس كذلك؟ إن المفارقة هي أن تكون الدولة الألمانية هي من يصنف من هو اليهودي، وما هو الموقف اليهودي الشرعي، وكيف ينبغي لليهود أن يتصرفوا، وهذا سلوك في ازدراء".
المثال النهائي لكيفية عمل هذا التعريف لليهود واضح من الحكاية التالية:
"في عام 2020، في أكاديمية فايسينسي (Weißensee) للفنون في برلين، شكلت مجموعة متنوعة من الطلاب اليهود المولودين في إسرائيل مجموعة دراسية تُعرف باسم (مدرسة نبذ الصهيونية). تهدف هذه المجموعة، التي تضم أفرادا من شتى المشارب السياسية ولديهم مستويات متباينة في الانخراط السياسي، إلى إجراء فحص نقدي للسرديات الوطنية التي نشأوا عليها. أثارت مبادرتهم جدلا بين بعض المسؤولين الذين شعروا بأنهم مجبرون على وصف أي شكل من أشكال النقد ضد إسرائيل بأنه معاد للسامية، ما أدى إلى رد فعل عنيف وكبير. أُلغي تمويل الطلاب لعرض التخرج الخاص بهم، وأدرجت مجموعتهم في التقرير السنوي عن الحوادث المعادية للسامية من قبل (مؤسسة أماديو أنطونيو)، وهي منظمة ألمانية بارزة مناهضة للعنصرية. وهكذا، وجدت مجموعة مناقشة أكاديمية نفسها مصنفة جنبا إلى جنب مع الأعمال المعادية للسامية الخطيرة، مثل الاعتداء على شخص كان يحضر صلاة يهودية في هامبورغ، وتخريب المقابر اليهودية بالصليب المعقوف".
لا مجال هنا لسرد سلسلة التناقضات المحيرة النابعة من العلاقة الحصرية بين دولتين، ولذلك سأكتفي ببعضها. أولى هذه المفارقات هي أن مسألة معاداة السامية، في ألمانيا المعاصرة، لا تتعلق برمتها باليهود على الإطلاق.
ويشير إيال وايزمان إلى أن الشكل المتزايد الحزم من الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، أو "الهسبارا"، يستمد صلاحيته من ثقافة الذكرى الألمانية. ويشير إلى مفهوم "القبة الحديدية الخطابية"، الذي صاغه الفيلسوف عدي أوفير، لوصف كيف تقوم إسرائيل بتحييد الانتقادات بشكل استباقي لمنع أي ضرر محتمل. ويشرح كيف بات هذا النهج في التعامل مع معاداة السامية يتعلق بالنقاش الألماني المحلي حول الهوية الوطنية أكثر من اهتمامه بالتأثير الفعلي على الجالية اليهودية في ألمانيا وأماكن أخرى أو مخاوفها. وقد أدى ذلك إلى تسييس معاداة السامية والتنازع عليها بين اليسار واليمين السياسي، وغالبا ما يتم تجاهل مصالح اليهود أنفسهم ورفاههم.
يتمتع الحديث حول معاداة السامية في ألمانيا بعمق وجدية لا مثيل لهما في أماكن أخرى، مثل بريطانيا، بسبب الحاجة العميقة لمعالجة الذنب التاريخي الوطني والتعويض عنه.
يشير بروشنيك، في هذا، إلى أن النهج الذي تتبعه ألمانيا في التعامل مع الهوية اليهودية أصبح سطحيا وأسطوريا بشكل مفرط، وهو ما يخدم في نهاية المطاف رواية تسعى إلى خلاص ألمانيا على المسرح العالمي. ويجري السعي إلى هذا الخلاص من خلال عملية ترفع من مستوى التجارب اليهودية بينما تهمش في الوقت نفسه صدمات تاريخية أخرى، ولا سيما المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون بسبب الإجراءات الإسرائيلية.