بدا مفاجئا لجوء الرئيس جو بايدن إلى منصة "تيك توك" الصينية، رغم أن الإدارة الفيدرالية كانت قد حذرت مُوظفيها من استخدامها بسبب مخاوف أمنية، بعد أن أحبط القضاء محاولات حظرها في الولايات المتحدة. مضطرٌ هو، وليس مختارا، لحاجته الشديدة إلى مخاطبة الشباب الأميركي، الذي يُقبل على هذه المنصة أكثر من غيرها ربما لأنها تناسب إيقاع الحياة السريع في أميركا، ولا تستغرق متابعتها وقتا طويلا لاعتمادها على تقنية الفيديوهات القصيرة، والقصيرة جدا. ولهذا دخل بايدن عالم "تيك توك" للمرة الأولى قبل أيام بفيديو مدته 26 ثانية فقط، تحدث فيه بسرعة شديدة عن مباريات سوبر بول الأكثر شعبية لدى الشباب، وأجاب عن سؤال حول الفنانة تايلور سويفت التي تدعمه.
ورغم أن استخدامه هذه المنصة تجاوز خطا أحمر كان الرئيس السابق ترمب قد حدده، وحافظ هو عليه حتى أيام قليلة مضت، فالأرجح أن هذا التغيير لن يؤثر في مسار ما يمكن أن نسميه التنافس الناعم، أو قل الأكثر نعومة، بين واشنطن وبكين. إنه التنافس المعتمد على أدوات القوة الناعمة بأشكالها المتعددة، سواء التقليدية أو الرقمية.
لم يكن لدى الصين شيء يُعتد به من هذه الأدوات حين ظهرت أهميتها في حسم نتيجة الحرب الباردة الدولية لمصلحة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. ولكنها تمكنت منذ آخر ثمانينات القرن الماضي من تطوير قدرات هائلة في هذا المجال الذي يُعد اليوم أحد أهم أوجه الصراع الدولي الرئيس، وخاصة في تجلياته الرقمية الأكثر انتشارا وتأثيرا. ويتسابق الصينيون والأميركيون الآن على التأثير في عقول الناس وقلوبهم في أنحاء العالم عن طريق منجزات التكنولوجيا الرقمية. وكثيرة مجالات هذا التنافس المتزايد، ولكن أهمها في اللحظة الراهنة ثلاثة.
"تيك توك" حقق زيادة في عدد المستخدمين بنسبة 40 في المئة شهريا منذ 2020، وأكبر أسواقه توجد في الولايات المتحدة وأوروبا والبرازيل
تطبيقات التواصل الاجتماعي
التواصل الاجتماعي هو محور الثورة الرقمية، وأكثر جوانبها التصاقا بحياة البشر وقيمهم وثقافاتهم. ويستخدم معظم الناس في العالم الآن منصات التواصل الاجتماعي في التفاعل بينهم، وقضاء حاجاتهم، والبحث عما يرغبون فيه.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن تكون هذه المنصات من أهم تجليات التنافس الصيني- الأميركي. وبرغم أن الولايات المتحدة سبقت الصين إلى هذا المجال الرحب، ولديها عدد وفير من أدواته، فقد أصبح "تيك توك" المملوك لشركة "بايت دانس" الصينية مصدر إزعاج لها.
ويعود هذا الانزعاج إلى عوامل أهمها الانتشار الواسع الذي حققه "تيك توك" في فترة وجيزة، إذ أصبح متاحا في أنحاء العالم منذ أغسطس/آب 2018 فقط، بُعيد إطلاق نسخته الصينية- الإقليمية "دوين". وتُفيد بيانات "تقرير الحالة العالمية الرقمية" (Digital Global Overview Report) أن "تيك توك" حقق زيادة في عدد المستخدمين بنسبة 40 في المئة شهريا منذ 2020، حيث كان عدد مستخدميه 289 مليون شخص فقط. ولا يقل أهمية، بل يزيد، أن أكبر أسواقه توجد في الولايات المتحدة وأوروبا والبرازيل إلى جانب جنوب شرقي آسيا. كما أنه في مقدمة أصحاب الحسابات الأكثر متابعة له شباب أميركيون من "الجيل-Z"، وبعضهم مشهورون على نطاق واسع، مثل الفنانات تشارلي داميليو، وبيلابورتس، وآديسون راي، والفنانين سميث جونيو، وزاك كينغ، وجبسون ديرولو، وغيرهم.
ولهذا اشتد التنافس بين "تيك توك" وتطبيقات أميركية مناظرة في مقدمتها "يوتيوب"، و"إنستغرام" اللذين أجريت في كل منهما تحديثات لتقديم خدمة الفيديوهات القصيرة جدا التي تميز بها التطبيق الصيني، وإضافة خدمات أخرى سبق إليها على نحو جعله تطبيقا شاملا (سوبر آب).
وأدى ازدياد القلق من أن يكسر "تيك توك" تفوق وادي السليكون وقيادته صناعة التكنولوجيا الرقمية في العالم إلى محاولة اتخاذ إجراءات إدارية وقانونية لمحاصرته في الولايات المتحدة، ولكنها لم تُحقق نجاحا كبيرا حتى الآن.
بعض تجليات الوجه الأكثر نعومة للتنافس يمكن أن تبلغ مستويات تفوق التصور، وهذا مفهوم في حالة تقنية "5G"
تقنية "5G"
تعتمد الثورة الرقمية بالأساس على تقنيات الاتصال السريع عبر شبكات خلوية واسعة النطاق. ولهذا تُعد تقنية الجيل الخامس لهذه الشبكات (5G) أحد جوانب الوجه الأكثر نعومة للتنافس الصيني-الأميركي. فقد سبقت الصين إلى تطوير هذه التقنية، وكانت شركة "هواوي" الأولى في العالم التي تمكنت من صناعة أجهزة إرسال تقنية الجيل الخامس، وحل المشاكل التي اعترضت إطلاق العمليات التجارية لشبكاتها، وتوفير المستلزمات الضرورية لخدماتها.
ولهذا فرضت واشنطن قيودا على عمل هذه الشركة، وكذلك شركة "Z&F"، من خلال قرار تنفيذي أصدر في مايو/آيار 2019 وعُرف باسم (قرار حماية المعلومات وتقنية الاتصالات وسلاسل تزويد الخدمات). وشملت القيود منع الشركة من شراء رقائق الكمبيوتر المصنوعة بواسطة تكنولوجيا أميركية، ومنع شركات الولايات المتحدة من التعامل معها إلا بعد الحصول على إذن بشأن كل معاملة على حدة. وأدى ذلك إلى توقف نظام التشغيل أندرويد عن تقديم التحديثات الدورية لحائزي هواتف "هواوي".
ويدل هذا الإجراء على أن بعض تجليات الوجه الأكثر نعومة للتنافس يمكن أن تبلغ مستويات تفوق التصور. وهذا مفهوم في حالة تقنية "5G" التي تضيف إلى من يملك مفاتيحها بشكل كامل قدرات متجددة في الاتصالات البالغة السرية، ونقل البيانات وتخزينها وتأمينها، وتشييد البنى التحتية الرقمية، إلى جانب أهميتها الاقتصادية الكبرى، إذ يُتوقع أن تسهم في تحقيق ما بين 13 و15 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية الجديدة في العالم بحلول عام 2035.
التجارة الإلكترونية
كانت شركة "علي بابا" الصينية هي الأولى التي كسرت احتكار شركة أمازون الأميركية مجال التجارة الإلكترونية. وأصبح ملايين البشر يستخدمون منصات شركة "علي بابا" في شراء مستلزماتهم.
ويعود اشتداد التنافس بين الشركتين إلى حرص شركة علي بابا منذ البداية على تجنب تقليد شركة "أمازون" التي أُسست قبلها بنحو 5 سنوات. فقد لجأت إلى أساليب عمل مختلفة، رغم أن الشركتين تعملان في المجال نفسه. ولعل أهم أوجه الاختلاف أن شركة "علي بابا" تعطي أولوية لأعمال الوساطة بين المشترين والبائعين، ولا تدخل منصاتها في عمليات البيع المباشر في الأغلب الأعم، وليس لديها مخازن ضخمة للسلع، ولا تقوم بالتالي بدور التاجر الوسيط بخلاف "أمازون"، التي تحتفظ دائما بمخزونات تبيع منها، ولديها سلسلة توريد خاصة بها. ويُوفر وجود هذه المخزونات ميزة بشأن الوقت الذي يستغرقه توصيل السلعة إلى المشتري، وكذلك فيما يتعلق بالأسعار في بعض الأحيان.
يزداد التنافس في المجال الأكثر نعومة للتنافس الصيني- الأميركي سعيا إلى التفوق في أدوات الثورة الرقمية
ورغم أن "أمازون" تتفوق في الإيرادات، إلا أن "علي بابا" تُحقق زيادة أكبر في إيراداتها في الأعوام الأخيرة. كما أن أرباح "علي بابا" أعلى رغم أن إيراداتها الكلية أقل. ويعود ذلك إلى أن نفقات "أمازون" أكبر بسبب أسلوب عملها الذي يتطلب الإنفاق على بنية تحتية كبيرة للتخزين وبناء المخازن أو تأجيرها.
وهكذا يزداد التنافس في المجال الأكثر نعومة للتنافس الصيني- الأميركي سعيا إلى التفوق في أدوات الثورة الرقمية التي صارت من أهم مُحددات الصراع على قمة العالم في هذا العصر. وليس متوقعا أن يؤثر اضطرار بايدن لاستخدام "تيك توك" لأغراض انتخابية في مسار هذا التنافس الناعم.