على عكس الصعوبات التي عانتها روسيا في تحقيق أهدافها المعلنة من حربها المستمرة على أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022، كانت عملية احتلال القرم قبل نحو عشر سنوات من أسلس عمليات الاحتلال في التاريخ، ضمن خطة محكمة سرية لم يدرك العالم طبيعتها إلا بعد الانتهاء منها عمليا من دون اللجوء إلى عملية عسكرية واسعة.
وفي ظل انشغال الحكومة المركزية في كييف بترتيب أمورها إثر الإطاحة بحليف الكرملين الرئيس فيكتور يونوكوفيتش أنجز "الرجال الخضر" مهمة احتلال القرم. وبعد أقل من شهر على "الانقلاب" في كييف، كانت الألعاب النارية تدوي في سماء موسكو وسيمفاروبل وسيفاستوبول احتفالا بضم القرم رسميا إلى روسيا.
أهمية القرم
تحظى شبه جزيرة القرم بأهمية جيوستراتيجية كبيرة لموقعها في البحر الأسود وإشرافها على مضيق كيرتش المنفذ إلى بحر آزوف حيث أهم موانئ تصدير المعادن من منطقة دونباس. وإضافة إلى موقعها، فإن شبه الجزيرة لها رمزية تاريخية كبيرة، فقد خاضت الإمبراطورية الروسية حروبا كثيرة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر مع الإمبراطورية العثمانية للسيطرة عليها، والوصول إلى المياه الدافئة. وتعد شبه جزيرة القرم "واسطة العقد" في نوفوروسيا، وهو المصطلح الذي يطلقه القوميون الروس على جنوب شرقي أوكرانيا في المنطقة على شواطئ البحر الأسود وبحر آزوف الممتدة بين أوديسا مرورا بمقاطعات نيكولاييف وخيرسون وزاباروجيا وصولا إلى دونيتسك ولوهانسك شرقا.
وفي الحقبة السوفياتية كانت جمهورية القرم تتمتع بحكم ذاتي، وعانى سكانها الأصليون من تتار القرم في ظل حكم الزعيم يوسف ستالين الذي شرد مئات الآلاف من التتار إلى سيبيريا وكازخستان وأوزبكستان بعد اتهامهم بالخيانة والتعامل مع النازيين. ومع مرحلة "ذوبان الجليد" قرر الزعيم السوفياتي نيكيتا خوروشوف في 1954 إلحاق القرم إداريا بأوكرانيا مع استمرار تمتعها بالحكم الذاتي. ولم يحمل القرار حينها تغييرا جذريا في الواقع، فالحدود بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي كانت مجرد حدود إدارية ضمن سيطرة مباشرة من موسكو، وربما من المنطقي أن تتبع القرم إداريا لكييف نظرا لعدم وجود حدود برية مع جمهورية روسيا الاشتراكية السوفياتية حينها.
رياح التغيير غير المواتية لروسيا هبت للمرة الأولى مع قرب انهيار عقد الاتحاد السوفياتي. ورغم وجود أغلبية من أصول روسية في القرم فقد قرر سكانها في استفتاء 1 ديسمبر/كانون الأول بفارق ضيئل (54 في المئة) الاستقلال مع بقية أوكرانيا، علما أن 92 في المئة في عموم أوكرانيا دعموا الانفصال عن الاتحاد السوفياتي في الاستفتاء المذكور.