لم تكن المرة الأولى التي يعلن فيها الفيلسوف الفرنسي إدغار موران موقفه الرافض للحرب الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ومحاولات تهجيره، فقد سبق له أن حوكم في فرنسا عام 2004 بتهمة معاداة السامية إثر مقال نشره في صحيفة "لوموند" ينتقد فيه الممارسات الإسرائيلية القامعة للفلسطينيين. لكن تصريحاته الأخيرة في الصحافة وخلال معرض مراكش للكتاب أثارت الكثير من الجدل بسبب محاولات المؤسسات الداعمة لإسرائيل إخراس أي رأي ناقد للحرب على غزة. حتى إن البعض لم يتردد في إعادة الاتهام القديم لهذا الفيلسوف البالغ من العمر 102 عاما والمتمثل بمعاداة السامية أو "كره الذات" وهي صفة تطلق عادة على منتقدي إسرائيل من أصول يهودية. فقد استنكر موران ما يجري من حرب على غزة واصفا إياها بـ "المذبحة الواسعة" و"المأساة المروعة" وقال إن قادة الحرب الإسرائيليين هم "أحفاد شعب أُضطُهد تحولوا إلى مضطهِدين". وإذ رأى أننا عاجزون عن مواجهة هذه المأساة فإن "علينا على الأقل أن نكون شهوداً، فالشهادة على ما يحدث هي المقاومة الوحيدة المتبقية لنا".
مع هذه المواقف الواضحة والشجاعة تجاه ما يحدث للشعب الفلسطيني من سلطات الاحتلال الإسرائيلية، يُلاحظ أن موران لم يعترض على "حق دولة إسرائيل في الوجود" لكنه في المقابل ظل ينتقد القمع "الذي يمارسه الجيش أو الشرطة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين".
استنكر موران ما يجري من حرب على غزة واصفا إياها بـ "المذبحة الواسعة" و"المأساة المروعة" وقال إن قادة الحرب الإسرائيليين هم "أحفاد شعب أُضطُهد تحولوا إلى مضطهِدين"
وفي كتابه "دروس قرن من الحياة" يقول إنه خلال مُقامه في إسرائيل سنة 1965، أي قبل الحرب الأيام الستة، اكتشف الكراهية المتبادلة بين اليهود والعرب، وقد كان في صدد البحث عن جذوره، ليس لأنه رأى أن هيمنة إسرائيل على الشعب العربي في فلسطين قد ورطته بوصفه يهوديا فحسب، بل من حيث كونه "أحد أواخر المثقفين اليهود الحاملين للنزعة العالمية والمناهضين للاستعمار، ومن ثم المعارضين لاستعمار فلسطين العربية"، كما قال. واعترف موران بحق الفلسطينيين في إقامة دولة قومية، مع أن أمنيته الحقة هي أمنية مارتن بوبر نفسها، ويعني "أمة مشتركة بين اليهود والعرب".
المتابع لوسائل الإعلام الفرنسية يجد أن معظم القنوات التلفزيونية الشهيرة تغلب الرواية الإسرائيلية على بقية الروايات ولكن هذا المنحى، مع اتساعه، لا يطغى على توجه صحف شهيرة (لوموند، ليبراسيون، لومانيتيه) والذي بدا واضحا في نشر تقارير تكشف مدى فداحة الحرب على غزة وفي إعطاء مساحة مميزة للأصوات المنددة بالحرب، ومنها أصوات من يمكن تسميتهم بالمنشقين اليهود المعارضين لسلطات الاحتلال الإسرائيلية، فقرأنا بيانات ومقالات تستنكر الحرب على غزة، أبرزها البيان الذي نشرته "ليبراسيون" بعد اندلاع الحرب على غزة ووقعه 85 مثقفا يهوديا، منهم الفيلسوف مايكل لوي والكاتب جيرار حداد والكاتبة والشاعرة ليزلي كابلان والناشرة يائيل ليرر والمخرجة سيمون بيطون والمخرج يوتام بن ديفيد والمؤرخة صوفي بسيس والطبيب روني براومان الرئيس السابق لمنظمة أطباء بلا حدود وعالمة الاجتماع سونيا ديان هرتزبرون والكاتبة والفيلسوفة ماري خوسيه موندزين والمخرج إيال سيفان. إذ حذروا في البيان من "تطهير عرقي"، وأعلنوا تضامنهم مع الفلسطينيين قائلين إن القادة الإسرائيليين يمارسون القتل باسمهم، وإنهم كيهود يشعرون "بالذعر من انتهاك دولة إسرائيل للقانون الدولي في غزة دون أي عقوبات".
وعلى الرغم من اتساع مناصرة الشعب الفلسطيني في الوسط اليهودي في فرنسا إلا أن هناك من يعمل على إعاقة هذه الأنشطة كما حدث مع المفكرة، من أصول يهودية، جوديث بتلر والتي منعتها بلدية باريس من القاء محاضرة لها بدعوى الحرص على عدم إخلال النظام العام. وقد اعتبرت جوديث، وهي مؤلفة كتاب "مفترق طرق: اليهودية ونقد الصهيونية"، ما يجري في غزة "إبادة جماعية" قائلة إن الحرب لا تستهدف المقاتلين وإنما كل سكان غزة.
على الرغم من اتساع مناصرة الشعب الفلسطيني في الوسط اليهودي في فرنسا إلا أن هناك من يعمل على إعاقة هذه الأنشطة
ومن بين محاولات حجب المعلومات عن الرأي العام قيام دار النشر الفرنسية "فايار" بإزالة كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه من كتالوغ المبيعات بحجة انتهاء عقد النشر مع المؤلف، فيما يبدو أن الأسباب الحقيقية تعود إلى الاقبال الكبير على الكتاب بعد الأحداث الأخيرة وهو ما لم يرق لمشتري دار النشر الجديد اليميني المتطرف فنسنت بولوريه والذي كان موضوع فيلم وثائقي بثته منظمة "مراسلون بلا حدود" قبل سنتين، كشفت فيه عن الأساليب التي اتبعها رجل الأعمال هذا في تحجيم حرية الإعلام ومدى خطورة ذلك على الديمقراطية.
ويتوقع أن تعيد دار "لافبريك" نشر الكتاب في مايو/ أيار المقبل، وهي دار معروفة باهتمامها بالقضية الفلسطينية وسبق أن نشرت مجموعة من الكتب حولها، وأسس الدار، حسب موقع أخبار "أكتواليت"، إريك هازان المولود لأبوين من أصل يهودي روماني ومصري. ويعد كتاب إيلان بابيه من أشهر المراجع التي تناولت التطهير العرقي في فلسطين من خلال "أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث"، حيث هُجر حوالي سكان خمسمئة قرية من منازلهم، فصار السكان اليهود هم الأغلبية في فلسطين نهاية عام 1948، بعد أن كان عددهم قبل سنة لا يتجاوز الثلث من السكان.
لا تقتصر شهادات حرب إسرائيل ضد سكان غزة، على مجموعة من أهم المثقفين والناشطين اليهود في فرنسا وإنما تتسع في كل العالم وأهمها تلك البيانات التي كتبها مثقفون يهود في أميركا وطالبوا فيها الرئيس بايدن بالعمل على وقف إطلاق النار وتوقيف "المذبحة" ضد الفلسطينيين.