بينما يتصاعد النقاش العام في تركيا بشأن الدستور الجديد المنوي إقراره، كركيزة أساسية ونهائية لمشروع الرئيس رجب طيب أردوغان، تهيئة لإمكانية بقائه بأشكال أخرى في الحياة العامة، أو ترتيب أوضاع ورثته السياسيين، الذين سيكونون غالبا من أبناء عائلته، فإن السؤال الأبرز يتعلق بموقف الجيش التركي من هذا الدستور والتغيرات الذي قد يجريها أردوغان على المواد الثلاث الأولى والرئيسة في الدستور الحالي، الديمقراطية والجمهورية والعلمانية، المحددة لهوية الكيان التركي نفسه والتي كان الجيش منذ قرابة نصف قرن يعتبر نفسه حامي تلك المبادئ وحتمية استمرارها في أي دستور مستقبلي للبلاد حيث كان يصنفها كضمانة لاستمرار الجيش في مكانة متميزة بالحياة العامة لتركيا.
منذ بداية مشروعه السياسي، كان أردوغان- كسياسي قادم من تيار الإسلام السياسي التقليدي في تركيا- يملك حساسية تجاه تلك المحددات الأيديولوجية/السياسية في دستور البلاد، يصنفها، إلى جانب القضاء والجيش والجهاز البيروقراطي المركزي، كأدوات يتحكم بها التيار السياسي "العلماني"، المتمثل في حزب الشعب الجمهوري "الأتاتوركي"، المعارض منذ أكثر من عقدين. لذا، يسعى جاهدا لتفكيكها بالتقادم، لتهيئة الأرضية لخلق قطيعة تاريخية استثنائية مع الدولة ذات الهوية الأيديولوجية الأتاتوركية، المتهمة من قِبله بالتضييق على التيار الإسلامي واستبعاده من متن الحياة السياسية في البلاد منذ التأسيس. عبر تغيير الدستور نفسه.
خلال الصيف الماضي أجرى الرئيس أردوغان تغيرات جوهرية على قيادة جهاز الشرطة ووزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، كانت كلها في إطار استبعاد الشركاء السياسيين من حزب الحركة القومية، الذين تم تعيينهم من قِبل وزير الداخلية الأسبق سليمان صويلو. هؤلاء الذين صعدوا عقب انقلاب 2016 الذي قام به تنظيم فتح الله كولن، الذي كان مؤيدوه يحظون بنفوذ بالغ ضمن أجهزة الوزارة وعناصرها. فوزارة الداخلية كانت من المواقع والجهات التي منحها أردوغان لحزب الحركة القومية، لتشييد الشراكة السياسية بينهما، ولملء الفراغ الذي نتج عن فصل الآلاف من مؤيدي كولن من المواقع الحساسة في الوزارة والأجهزة الأمنية. كانت تغيرات أردوغان الأخيرة في الوزارة على الضد من إرادة وطلبات حزب الحركة القومية الحليف، وعاملا لنشوء أول خلاف سياسي عميق بين الطرفين، خرج للعلن، وبسببه لم يجر التجديد لصويلو كوزير للداخلية في التشكيلة الحكومية الجديدة.
هيئة الأركان، ومثلها المجلس العسكري الأعلى، صارا مؤسستين عسكريتين خاليتين تماما من العسكريين الأتاتوركيين
فالتشكيلة الجديدة لقادة شرطة الولايات كانت متخمة بالعناصر المناوئة لوزير الداخلية الأسبق سليمان صويلو، مثل قائد شرطة إسطنبول ظافر أكتاش، ورئيسي شرطة ولايتي أضنة وأنطاليا، دوغان إنشي وأورهان تشيفيك، ومثلهم قائد شرطة العاصمة أنقرة إنجين دينك. وعلى الرغم من كل الانتقادات التي كانت تطولهم، بالقصور في عمليات الضبط الأمني ضمن هذه المناطق الحساسة من البلاد.
بعد أسابيع قليلة، أدخل أردوغان تبديلات مثيرة للملاحظة في قيادة الجيش، أثناء الاجتماع السنوي للمجلس العسكري الأعلى (YAŞ)، لم تكن متوقعة أبدا. ضمت اللائحة الجديدة ضباطا موالين ومقربين أيديولوجيا منه تماما، خصوصا تعيينه للجنرال متين جوراك رئيسا لهيئة الأركان، وهو أول رئيس أركان من خارج فريق النخبة العسكرية التقليدية "الأتاتوركية". فجوراك منحدر من أبناء "الأقلية" العربية جنوب شرقي البلاد، غير المعروف بميوله الأيديولوجية التقليدية ضمن الجيش التركي، وكان صاحب الدور الرئيس في كبح انقلاب عام 2016، ومثله باقي قادة الجيوش البرية والجوية والبحرية وهيئة الأركان.
حدث ذلك في وقت انتشرت فيه دراسة في تركيا تقول إن الأغلبية المطلقة من قادة الجيش صاروا من أبناء وسط الأناضول والبحر الأسود، هذه المناطق الموالية مطلقا لأردوغان، بعدما كانوا تقليديا من أبناء مدن الساحل الغربي لتركيا.
حسب هذا التكوين الجديد، وبعد عدم التجديد لوزير الدفاع الأسبق خلوصي أكار، على الرغم من قربه السياسي من أردوغان، فإن هيئة الأركان، ومثلها المجلس العسكري الأعلى، صارا مؤسستين عسكريتين خاليتين تماما من العسكريين الأتاتوركيين، ولأول مرة في تاريخ تركيا الحديث. وبذا أصبحتا أداة طيعة وموالية لأردوغان. حدث ذلك حتى دون التوازن الذي كان مراقبو الشأن التركي يتوقعونه على الدوام في السلوك السياسي لأردوغان طوال فترة حُكمه: وهو إبقاؤه بعض المؤسسات دون تغييرات جذرية لصالحه، مثل القضاء والجيش ومجلس الجامعات. أو حفظ التوازن الأيديولوجي ضمن الجيش والأجهزة الأمنية، عبر الإبقاء على بعض القياديين التقليديين فيها، كضمانة للتيارات السياسية التأسيسية للدولة التركية، حفظا للتوازن المفترض في البلاد، بغية عدم إدخال الأوضاع العامة في الاستقطاب الذي قد يتسبب في صدامات وخضات واضحة، حفظا لاستقرار حُكمه المديد.
بعد إجراء تلك التحولات، كان لافتا للأنظار انطلاق حملة سياسية شاملة ضد حزب الشعب الجمهوري "الأتاتوركي"، تجاوزت الأطر التقليدية للخلاف السياسي بين الأحزاب الرئيسة في تركيا، بدءا من اتهام الحزب بالارتباط بحزب العمال الكردستاني ومقاتليه، ووجود صلات مُستترة بينه وبين تنظيم فتح الله كولن، وصولا لتوجيه أصابع الاتهام إليه بمحاولة تنفيذ انقلاب أو تقسيم البلاد، وليس انتهاء بالشحن الإعلامي والسياسي ضده، عبر ربطه بما سُمي بالأجندة الغربية المناهضة لتركيا والساعية إلى فصلها عن فضائها الإسلامي وتاريخها وهوية شعبها.
صارت لأردوغان الصلاحية الكاملة لوضع دستور جديد للبلاد، دون خشية من أي اعتراض
حسب الترتيبات الجديدة، فإن الأغلبية البرلمانية مضمونة تماما، بفعل الالتصاق التام لحزب الحركة القومية بحزب العدالة والتنمية، خصوصا من قِبل القياديين الجدد في الحزب، الذين يملكون تحديا أساسيا من "الحزب الخير" المنشق عنهم، ورفضا قاطعا من حزب الشعب الجمهوري. وإلى جانب البرلمان صارت المجالس العليا، للقضاء والجامعات والنقابات المهنية ممسوكة بيد أردوغان، بفعل التغيرات التي أدخلها منذ امتلاكه صلاحيات مطلقة كرئيس للجمهورية منذ سنوات. ومعها كلها صار مجلس الأمن القومي مواليا له تماما، الأعضاء المدنيون الثمانية، والرئيس نفسه، ووزراء العدل والخارجية والمالية والخزانة والداخلية والدفاع والتربية الوطنية، والعسكريون الأربعة، ورئيس الأركان، وقادة القوات البرية والبحرية والجوية.
بناء على ذلك، صارت لأردوغان الصلاحية الكاملة لوضع دستور جديد للبلاد، دون خشية من أي اعتراض على نوعية وآلية إدخال تغييرات جذرية قد يمارسها، لصالحه الشخصي كسياسي يسعى لإعادة صياغة الدولة التركية من جديد بعد قرن، ودون حتى حوار وشراكة حقيقية من باقي القوى السياسية، خصوصا مع حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي وحزب ديمقراطية الشعوب الموالي للأكراد، كما يفترض بالدساتير. لكن ذلك بالضبط قد يكون مدخلا لنوع جديد من الاستقطاب الشعبي، تتغير فيه هوية البلاد، فتغدو الأتاتوركية وتيارها التاريخي التقليدي تشعر بمظلومية واستبعاد من متن الدولة، المحتكرة لتيار أردوغان الإسلامي، والمغلقة أمام غيره.