سبق إعلامي لقناة العربية أن تظهر على شاشتها زوجة زعيم تنظيم "داعش" (وبعدها ابنته وزوجته الثالثة) متحدثة لأول مرة عن الصور اليومية وأجواء الحياة في ظل أشرس تنظيم إرهابي عرفته المنطقة العربية. مع أن هناك من شكك في شهادة أسماء محمد الكبيسي، غير أني أراها كانت صادقة بمقدار كبير، وأنها كانت ضحية، وأنها قد عانت معاناة شديدة من عيش كهذا، خصوصاً عندما نتذكر أن البغدادي قد فخخ ابنهما فقتل معه مع أنه كان طفلاً صغيراً. مثل هذه الجريمة كفيلة بقتل ما بقي من مودة الزوجة لزوجها، ولا لوم عليها البتة في هذا البوح المكلوم.
ثم رأينا لقاء آخر لزوجة أخرى للبغدادي، فقد كان متزوجاً من أربع وحظي بإحدى عشر سبية، واعتراض من إحدى السبايا على شهادة أسماء، لكن كل الاعتراضات كانت على بعض التفاصيل غير المهمة، فصار اعتراضهن جميعا تأكيداً على الجو العام الذي يحيط بحياة الناس في هذا التنظيم. لقد رسخن مصداقيتها بشكل أعمق.
وقد أماطت أسماء الكثير من الغموض الذي حام حول شخصية هذا الرجل وسردت الكثير من التفاصيل المهمة عن طبيعة العلاقة التي جمعت البغدادي بآخرين كأبي محمد العدناني وأبي السياف التونسي وأبي الحسن المهاجر وخلافه مع الجولاني الذي كان من أقرب الناس إليه، وحياة الهرب الدائم التي عاشها مع عائلته الكبيرة بين الرقة والموصل. ولعل أقوى كلمة قالتها أسماء هي أنه لم يدخل معركة قط، بمعنى أنه لم يكن ميدانياً. هذا يذكرنا بفرقة "القعدية" وهي من فرق الخوارج المعروفة في التاريخ الإسلامي، وهم من يحرضون ولا يشاركون في المعارك التي يحرضون على القيام بها.
من الأشياء التي برهن عليها لقاء أسماء أن لا قيمة للمرأة ولا لحياتها ولا لكرامتها عند هؤلاء المجرمين
من الأشياء التي برهن عليها لقاء أسماء أن لا قيمة للمرأة ولا لحياتها ولا لكرامتها عند هؤلاء المجرمين، وباتفاق الزوجات كان البغدادي يسبي النساء ويغتصبهن وأنهن كن يحاولن الانتحار جراء المعاملة اللاإنسانية التي كن يتعرضن لها.المرأة والجنس ورخص الزواج وسهولة السبي كلها وسائل للكودرة وتشجيع المزيد من المجرمين على الانضمام إلى التنظيم. هذه قضية محورية، لا بد لكل المسلمين من أن يتبرؤوا من هذه الأخلاق الإجرامية التي لا تمثل من في قلبه ذرة رحمة. إقرار هذه الممارسات هو إقرار للإجرام، ومن يقر مثل هذه الأعمال جدير بأن يخجل من نفسه.
من جهة أخرى، فإن قادة "داعش" كما رأينا وسمعنا أجلوا عوائلهم إلى سوريا ثم إلى تركيا وتركوا بقية رفاقهم للموت، وهذا لا يمكن أن يدافع عنه كل المحامين والمبررين. القادة العظماء عبر كل التاريخ هم آخر من يهرب، بل قد لا يهربون. هذه هي الرسالة الأولى التي يجب أن يعيها الشباب المتدين الذي يندفع بقوة وراء كل تنظيم يدعو للقتال، وسيندفعون في المستقبل، وقد رأينا كيف كانوا لعبة في أيدي هؤلاء المرضى المصابين بجنون العظمة. القادة أنفسهم كانوا ألعوبة في أيدي أجهزة المخابرات العالمية، الإيرانية وغير الإيرانية، وعندما حانت النهاية قضي عليهم، وانتهت قصتهم وستعود إلينا بعد سنين من جديد، إن لم نعالج الوضع بطريقة مختلفة، بطريقة استراتيجية لا تكتيكية.
من يسكتون عن الإرهاب الذي ينطلق من منطقتهم هم الخاسرون وليس نحن، لأنهم يسكتون عن وباء سيدمر أوطانهم
حلمهم هو عودة الخلافة، فكرة لا يزال يكررها المنظرون الإسلاميون منذ سقوط خلافة العثمانيين في عام 1922 ولهذا أعلن إبراهيم عواد الشهير بأبي بكر البغدادي نفسه خليفة ومؤسساً للدولة الإسلامية في الشام والعراق بعد أن استولى ورفاقه على الموصل والرقة وتكريت ونينوى والرمادي وكوباني ودير الزور ومناطق في ريف حماة وحمص والحسكة وتل أبيض. لكنها ولا شك دولة شر لن يحزن على غيابها إنسان سوي.
اعترض بعد الكتاب العرب بأن مثل هذا اللقاء يعري الإرهاب السني ويسكت عن الإرهاب الشيعي، وهذا نقد ينطلق من رؤية طائفية، فالإرهاب لا دين له ولا مذهب، بل يوجد في كل بلد من البلاد، وعندما نتحدث عن الإرهاب الذي ينطلق من منطقتنا فنحن نعمل لصالح وطننا، عندما نساهم في تطهيره من هذا الوباء. من يسكتون عن الإرهاب الذي ينطلق من منطقتهم هم الخاسرون وليس نحن، لأنهم يسكتون عن وباء سيدمر أوطانهم قبل أي أحد.