هنادا طه لـ "المجلة" في "يوم اللغة الأم": لتكن العربية اللغةَ الأم للأطفال العربhttps://www.majalla.com/node/311176/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%87%D9%86%D8%A7%D8%AF%D8%A7-%D8%B7%D9%87-%D9%84%D9%80-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85-%D9%84%D8%AA%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9%D9%8E-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84
بعدما صار العالم يُسمى "قرية كونية كبرى"، وهيمن عليه فضاء التواصل والاتصالات الآنية بلغات شتى تفوق الحصر، خصّص يوم عالمي (21 فبراير/ شباط) للاحتفال باللغة الأم، بل باللغات الأم الضاربة في القدم وفي التواريخ الخاصة للشعوب التي غالبا ما تشكل اللغات عنصرا تأسيسيا في تكوينها.
وربما من الطبيعي والبديهي أن نتساءل في هذا اليوم عن حال لغتنا العربية، التي قال أحدُ شعرائها مرة: "الأم مدرسة إذا أعددتها/أعددت شعبا طيب الأعراق". وفي هذه المناسبة قد يكون التطرق إلى حال الأطفال مع لغتهم الأم في أثناء تعلُّمهم إياها، مسألة تستحق التفكير والتشخيص. وهذا ما تحاول "المجلة" المساهمة فيه اليوم، بذهابها إلى أحد أهل الاختصاص في تعليم اللغة العربية وتعلُّمها في المناهج التربوية العربية.
إنها الدكتورة هنادا طه التي حاورتها "المجلة" حول هذا الموضوع. وهي كانت قد شاركت مشاركة أساسية في إنجاز بحث - دراسة وصفية وتحليلية عن مناهج تعليم العربية في بلدان عربية عدة: تونس، السعودية، الأردن، مصر، الإمارات. وقد صدر هذا البحث - الدراسة في تقرير من "مركز أبوظبي للغة العربية في دائرة الثقافة والسياحة".
حين نقول إن البيوت هي مهد حضور اللغة الأم في حياة الأطفال، إنما نعني أمهاتهم وآباءهم الذين يشكلون وسيط صلتهم الأساسية بالعالم
يعيش أطفال العالم العربي مشكلة في بدايات تعلُّمهم اللغة العربية: في بيوتهم تلتقط أسماعهم، وتدور على ألسنتهم، لهجمات عربية محكية كثيرة ومتنوعة. وحين يذهبون إلى المدارس، يبدأون بتعلُّم لغة عربية فصيحة في نصوص مناهج القراءة. لكن غالبا ما تدور المحادثة في الصفوف المدرسية بمحكية قد تختلف عن تلك التي عرفوها وتعودوا عليها في بيوتهم. التنوع والاختلاف هذان، كيف يمكن للأطفال أن يعيشوهما ويتجاوزوهما في تعلُّمهم لغتهم الأم؟
يبدأ حضور اللغات الأم في حياة الأطفال في البيوت، مهد ما يصل إلى أسماعهم من أصوات وكلمات يكتنفها غموض، فيما هم يشرعون في التقاطها وترجمتها إلى شيفرة خاصة بكل منهم، وتشكل صلتهم الأولى بالعالم، مع ما يتناهى منها إلى حواسهم الأخرى، من إشارات وعلامات. وهذا بعد ما قد تكون تلك الحواس التقطته أثناء تكوّنها في أرحام الأمهات.
وحين نقول إن البيوت هي مهد حضور اللغة الأم في حياة الأطفال، إنما نعني أمهاتهم وآباءهم الذين يشكلون وسيط صلتهم الأساسية بالعالم الحي من حولهم. واللغة العربية التي يشرع الأطفال العرب في التقاط أصواتها وكلماتها في بدايات حياتهم البيتية، هي لهجات كثيرة متنوعة بين البلدان والمناطق، وقد تفوق الحصر في ألوانها وتدرّجاتها.
لكن الأرجح، بل الأكيد، أن هذا التنوع يغني اللغة العربية الأم ويثريها، في حال أجدنا التعامل معه برشاقة وذكاء. وذلك ما دامت العربية نشأت وتطوّرت متنوعة طوال تاريخها المديد، كمثل سائر اللغات كلها في العالم.
ومن الطبيعي أن يكلم الآباء والأمهات في البلدان العربية أطفالهم باللهجات المحكية الدارجة، وليس بالعربية بالفصحى، التي صارت لغة كتابة أكثر من ما هي للمشافهة أو للتواصل الشفوي.
عالم لغوي منفصم
وطالما أن موضوعنا هو اللغة العربية الأم وصلتها بالأطفال، أجدني أركّز على ظاهرة لغوية سيئة في بيئات اجتماعية عربية كثيرة: إصرار الأهل، أي الأمهات والآباء في هذه البيئات على التكلُّم مع أطفالهم في حياتهم البيتية بخليط لغوي بين عربيتهم المحكية ولغة أجنبية، غالبا ما تكون الإنكليزية الشائعة عالميا اليوم. وهناك من يصر في بعض البيئات (بلبنان مثلا) على عدم التواصل مع أطفالهم إلا بلغة أجنبية، إنكليزية أو فرنسية، كأنما يريدون إلغاء العربية من حياة أطفالهم.
أعلم ويعلم الجميع سواي أن هذه الظاهرة اللغوية - أي تنحية العربية جانبا أو خلطها بأخرى أجنبية - مصدرها حكم قيمة عملي على اللغة العربية، باعتبارها غير مفيدة وليست مهمة في عالم اليوم الذي أنجز وينجز تقدّمه بلغاتٍ أخرى غير العربية التي يخاف بعض أهلها من أن يسبق الوقت أو الزمن أطفالهم في تعلُّمهم لغة أخرى سواها، هي الإنكليزية غالبا، لأنها الأهم والأفيد في حياتهم وفي نجاحهم المدرسي والدراسي مستقبلا، ما دامت لغة العلوم والاختصاصات كلها والأعمال في العالم، ليست العربية.
تنحية العربية جانبا أو خلطها بأخرى أجنبية - مصدرها حكم قيمة عملي على اللغة العربية، باعتبارها غير مفيدة وليست مهمة في عالم اليوم
أظن أن الأهل في هذا يرتكبون خطأ فادحا في حق أطفالهم: تضييعهم فرصة أن يتعرف أطفالهم في بداية حياتهم واحتكاكهم بالعالم الحي المحيط بهم، التعرف عليه وإدراكه والتواصل معه، بلغتهم الأم. وهم، أي الأهل، بدل هذا يعيّشون أطفالهم في لغة مرتجة أو قلقة ويحادثونهم بها، وينشّئونهم في عالم مترجَم ومرتج، أو منفصم اللغة والعلامات والإشارات والتاريخ المعيش. هذا لأن التحدث إلى الطفل بكلمة عربية وكلمة أخرى إنكليزية أو سواها يفقده تلمس العالم والأشياء من حوله بصفاء، ويشوش ذائقته اللغوية في بداية تكونها.
الطمأنينة والأمان
لذا أرغب وأريد هنا، وفي مناسبة اليوم العالمي للغة الأم، أن أطمئن الأهل على أطفالهم وأقول لهم أن يطردوا ذاك الخوف من صدورهم، أي خوفهم على أطفالهم من أن يفوتهم قطار تعلمهم اللغات الأجنبية. وهو خوف ينطوي على تبخيس العربية الذي غالبا ما يتشرّبه الطفل من أهله.
أقول إن على الأهل أن يريحوا أطفالهم من تأسيس ذاك الفصام في لغتهم وفي عالمهم وأنفسهم. فالطفل شديد الذكاء، بل هو شعلة ذكاء في استيعابه بسرعة شديدة اللغة، واللغات الكثيرة في وقت واحد، أو على نحو متزامن. ولا خوف عليه قط من ألاّ يتعلّم لغة أجنبية، حتى قبل ذهابه إلى المدرسة التي تعلمه إياها بسهولة.
لذا على الأهل في بيوتهم ألّا يكلموا أطفالهم بذاك الخليط اللغوي المتج، بل بلغتهم العربية الأم المحكية. فالإنكليزية يحصّلها الأطفال من طرق شتى: التلفزيون، الألعاب، الهاتف المحمول، بل من الهواء، ثم في المدرسة.
هكذا أجدني أخاطب الأهل مباشرة للقول لهم: كلموا أطفالكم بلغتهم الأم، بمحكيتكم اليومية العادية. احكوا لهم حكايات الأجداد القديمة، تلك المغفلة الرواة، وأخبار الحياة اليومية العادية، أو حكايات خيالية تخترعونها. وهناك أيضا قصص كتب الأطفال بلغة عربية فصحية مخففة، وهي صارت متوافرة بغزارة، وسهلة الأسلوب، متقدمة وجيدة في ما تحمله من محتوى معنوي وعملي. وهذا بشهادة بحوث تربوية علمية كثيرة.
وبلا ذاك الخوف الذي يساوركم من ألّا يتعلم أطفالهم الإنكليزية، والذي لا بد من أن ينتقل إليهم في الهواء، باشروا بالتحدث إليهم بعربية عادية تمنحهم الإحساس بالأمن والأمان والتواؤم مع محيطهم وعالمهم. نعم الطمأنينة والأمان اللذان يلابسان عبارات من أمثال: يا قلبي، يا روحي، يا عيني، يا حبيب قلبي، يا قمري، يا حبيب ماما... إذ كيف يمكن توفير مثل هذه العبادات بغير العربية الأم؟ وكيف يمكن قولها أو ترجمتها بلغة أخرى؟
ثم أين تلك الأمثال والقصص الشعبية الباهرة الطالعة من التاريخ والمتسمرة حية في الحاضر؟ نحن نعيش في بيئات عربية وفي حقيبة لغوية عربية متنوعة وثرية، فلماذا هذا الفصام؟ وإذا كنتم تريدون طفلا أو فتى ثنائيي اللغة، عليكم أن تكلماهما بلغتهما العربية الأم، والمدرسة ووسائل التواصل تتكفل باللغة الثانية.
الحروف وحركات الإعراب
هنا يحضر سؤال حول تعلُّم الأطفال لغتهم العربية: علامات الإعراب، وموقع الحروف المختلفة الأشكال الكتابية واللفظ في الكلمات. كيف يمكن تعليم الأطفال لفظ الحروف العربية في هذه الحال؟ هل تسكين الحروف يمكن أن يحلّ هذه المشكلة مثلا؟ وهل من خبرات وتجارب في هذا المجال؟
مثل هذه المسائل تحتاج إلى أبحاث علمية ودراسات، وتواصل مع الهيئات والدوائر التربوية في الوزارات، وكذلك مع مراكز البحوث المتخصصة، للتفكير فيها.
لكن خبرتي تمكنني من القول إن الطفل العربي ليس في حاجة إلى معرفة علامات الإعراب على الحروف، قبل أن يكون قد أجاد القراءة، أي من الصف الابتدائي الأول حتى الصف الرابع، حين لا يكون قد تجاوز سن التاسعة من عمره بعدُ، أو بلغه.
مناهج تعليم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية تحتاج في عالمنا العربي كله إلى تفكيك وإعادة تركيب من جديد
وعلى الرغم من وجود آراء وأفكار ومناهج مختلفة حول هذه المسألة، أنا إلى جانب الرأي الذي يقول: دع علامات الإعراب العربية جانبا أثناء تعليم الأطفال القراءة، شريطة أن أصحح أخطاءهم في حركات الإعراب على الحروف، في حال أخطأوا في لفظها. ذلك أن ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة من تعلُّم الأطفال لغتهم الأم، ليس علامات الإعراب، كالضمة والفتحة والكسرة والسكون، بل تزويدهم بكمية كبرى من الكلمات. أما قواعد اللغة فتحين ضرورتها لاحقا في مرحلة التعليم ما بعد الابتدائية.
لا معنى لتعليم الطفل الفعل والفاعل والمفعول به وسائر منظومة قواعد العربية في هذه المرحلة. هي القراءة، قراءة لغته الأم ولفظ كلماتها سليمة وبسلاسة، ما يحتاج إليه الطفل. وهذا بواسطة كتب القراءة وقصص أدب الأطفال. والقراءة لا تعني لفظ الكلمات وحروفها وحده، بل استيعاب معاني الكلمات وتدرجات معانيها أثناء استعمالها وحسب موقعها من الكلام.
ودروس اللغة العربية في هذه المرحلة يجب أن تنصب على تحريك ذهن الطفل لغويا. أي تعويده على فهم المعاني وتراكيب اللغة وتحليلها، وعلى تحصيله خزينا كبيرا من الكلمات ومقدرتع على استعمالها. وهذا يتطلب المناقشة والمحادثة والتعامل مع الطفل بصفته كائنا يستوعب ويفكر ويحلل ويناقش، لا أن يكون متلقّيا يحفظ الكلمات حفظا بلا معانيها ودلالاتها المتدرجة في تنوّعها.
لذا أجدني هنا مضطرة إلى القول إن مناهج تعليم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية تحتاج في عالمنا العربي كله إلى تفكيك وإعادة تركيب من جديد، على أسس عصرية حديثة. فالمناهج تلك تقليدية غالبا، ولا تساعد الطفل في جذبه إلى لغته الأم التي تتميز عن كثرة سواها من اللغات، في أنها تُكتبُ كما تلفظ، أي أن حروفها في الكلمات غالبا ما تُلفظ كلها كما تُكتب.
وإضافة إلى تجديد المناهج نحن في حاجة ماسة إلى مدرّس جيد في تعليم العربية للأطفال. وقد تكون مشكلة المشاكل في تعليمها هي إعداد المعلمين، تحديث إعدادهم وتدريبهم على نحو دوري ومستمر.