على مدى أربعة عقود دأب "منتدى التنمية الخليجي"، الذي أسسه مثقفون خليجيون من دول المنطقة في عام 1981، على عقد لقاءاته بانتظام، وكرسها لدرس مختلف المسائل المتعلقة بالتنمية والثقافة في دول الخليج.
كان عنوان لقائه الأخير في الرياض مطلع الشهر الجاري، "دور المعرفة والثقافة في تعزيز التنمية في دول الخليج العربي"، وحضره أكثر من خمسين عضواً ومشاركاً من دول الخليج، وقدمت فيه ست أوراق تناولت المواضيع الآتية: إصلاح منظومة التعليم كشرط للتنمية، الثقافة ومجتمع المعرفة وتأثيرها على التنمية في دول مجلس التعاون الخليجي، ثقافة المجتمع؛ كيف تحفز النمو الاقتصادي أو تعيقه، التحديات الشائكة في المجال العلمي والإنتاج المعرفي (حالة الكويت)، آليات التأثير المعرفي في المجتمعات الخليجية وإدارة التحولات الاجتماعية، تموضع المعرفـــــــــة بين غايات التنمية وتحدياتها، التنمية الثقافية في دولة الامارات العربية المتحدة.
يبدو من عناوين الأوراق أنها تتطرق الى قضايا حيوية في الحياة الثقافية في منطقة الخليج العربي. وكانت اللقاءات السنوية السابقة تطرقت الى قضايا حيوية أخرى مثــل حقوق الإنسان والمجتمع المدني، والمرأة الخليجية والتنمية، والخليج والتحولات الإقليمية والدولية، ومظاهر الخلل في التركيبة السكانية، والتعليم والطفرة النفطية والمجالس التشريعية وغيرها من قضايا.
أعضاء المنتدى يعلمون بمحدودية تأثيرهم على المجتمعات الخليجية، كما أنهم لا يزالون بعيدين عن المشاركة في صناعة القرارات التي تضطلع بها الحكومات
لا شك أن هذه القضايا وغيرها استحوذت على عقول المثقفين الخليجيين ودفعتهم الى طرحها ومحاولة إيجاد المعالجات الناجعة والموضوعية لها. لكن هناك من يتساءل هل مثل هذا التجمع المحدود بأعداده قادر على الوصول إلى الشعوب الخليجية بعد مخاطبة السلطات الحاكمة والتأثير في القرارات الحكومية في شأن هذه القضايا وغيرها، وإلى أي مدى تؤثر الدراسات والتوصيات في عقول المواطنين وتفضي من ثم إلى صياغة ثقافة مجتمعية ملائمة للعصر؟
مثل هذه التساؤلات تظل مشروعة ومستحقة ولا بد أن أعضاء المنتدى يعلمون بمحدودية تأثيرهم على المجتمعات الخليجية، كما أنهم لا يزالون بعيدين عن المشاركة في صناعة القرارات التي تضطلع بها الحكومات في مختلف بلدان المنطقة. ربما هناك سلطات حكومية في عدد من دول الخليج تمكنت من تبني قرارات متقدمة وسبقت المنتدى في تبني توجهات أكثر تقدمية وعصرية، وربما عملت تلك السلطات على تبني توجهات المنتدى من دون أن يكون هناك تنسيق مؤسسي مباشر بين تلك السلطات والمنتدى.
ثقافات مجتمعية وسياسات الريع
كما يتضح من مسيرة المنتدى أن تأسيسه كان في فترة حرجة في تاريخ منطقة الخليج العربي. كانت الحرب العراقية الإيرانية قد بدأت في شهر سبتمبر/أيلول، 1980 وكانت تأثيراتها الصعبة بدت على المنطقة بما في ذلك من تهديدات أمنية. وبلغت أسعار النفط مستويات جديدة ومرتفعة بعدما تخطت أسعار الصدمة النفطية الأولى في عام 1974، وبعد حرب 6 أكتوبر، وتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مايو/أيار عام 1981.
في بلدان مثل الكويت والامارات وقطر تكدست العمالة الوطنية في الدوائر الحكومية أو شركات القطاع العام، وابتعدت عن أعمال القطاع الخاص الذي وجد العمالة الوافدة الأداء الأفضل والأقل تكلفة
إذاً، قام منتدى التنمية الخليجي في فترة مهمة من تاريخ دول الخليج. لكنه جاء بعدما تكرست ثقافات مجتمعية عززتها سياسات الريع التي أهملت بناء اقتصادات ذات قدرات إنتاجية ومتنوعة المصادر وبعيدة عن الاعتماد الهيكلي على النفط وعوائده. تميز المنتدى بالثقافة الموضوعية وأكد اهتمامه بالمسائل الحيوية وأفسح لها جلسات اللقاءات السنوية، وكلف الكثير من الأعضاء تقديم الأوراق المتعلقة بتلك القضايا وأصدر كتبا تحوي الأوراق والمداخلات حولها على مدى السنوات الماضية.
ومثلت تلك الدراسات محاولات لاستشراف طبيعة العلاقات المستقبلية وكيف يمكن أن تؤثر في مسارات التنمية في منطقة الخليج. وقد تعززت العلاقات الخليجية الأميركية بعد الغزو العراقي للكويت واحتلالها ثم تحريرها بواسطة قوات دولية بقيادة الولايات المتحدة. لا شك أن ذلك الغزو وعملية التحرير أحدثا تحولات جيوسياسية وثقافة مختلفة فتغيرت مفاهيم ظلت متحكمة بعقول المواطنين في الكويت ودول الخليج. لكن الخليج لا يزال مضطراً للاعتماد على الولايات المتحدة والدول الغربية لحماية دولة من الأخطار المحتملة من دول الجوار حتى بعد اسقاط نظام صدام حسين.
التركيبة السكانية والعمالة
القضية الشائكة الأخرى تتعلق بالتركيبة السكانية. بعد اكتشاف النفط وزيادة ثروات بلدان الخليج، توافد البشر إلى مختلف هذه البلدان للعمل والسعي وراء الرزق. دول الخليج ذاتها كانت، ولا تزال، في حاجة إلى عمالة ماهرة وغير ماهرة لإنجاز مختلف الأعمال والقيام بما هو مطلوب في مختلف القطاعات. معلوم أن مواطني بلدان المنطقة عملوا في مختلف المهن وأجادوا العديد من الحرف قبل بداية عصر النفط، ومارسوا أعمالاً شاقة تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً، كما أنهم في بداية عصر النفط عملوا في حقول النفط، لكن بعد اتباع السلطات الحكومية سياسات ريعية وانتهاج فلسفة دولة الرفاه عزف الكثيرون عن القيام بالأعمال المهنية وآثروا المكاتب والأعمال المريحة، وفي بلدان مثل الكويت والامارات وقطر تكدست العمالة الوطنية في الدوائر الحكومية أو شركات القطاع العام وابتعدت عن أعمال القطاع الخاص الذي وجد العمالة الوافدة أفضل في الأداء وأقل في التكلفة.
لا بد أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه المنتدى مركزاً يساعد على صياغة قرارات ذات صلة بالتنمية ويكون مشابهاً للمراكز البحثية في البلدان المتقدمة التي يطلق عليها "Think Tank"
أدت هذه الأمور إلى اختلالات في التركيبة السكانية وأصبح الوافدون يمثلون الغالبية في معظم دول الخليج. طرح أعضاء منتدى التنمية الخليجي هذه المسألة للحوار وقدم عدد منهم أوراقا متميزة صدرت في كتاب تحت عنوان "سكان الخليج: مظاهر الخلل وآليات المواجهة"، حرره الدكتور عمر الشهابي من البحرين وصدر بعد اللقاء الرابع والثلاثين في الكويت عام 2013.
على الرغم من كل هذه الجهود البحثية، لا شك أن هناك شوطاً طويلاً يجب اجتيازه قبل أن تتحقق أهداف المنتدى، لكن التوجهات الجديدة في دول الخليج تبشر بأن هناك امكانات واعدة للاستفادة من هذه الجهود وغيرها مما يبذله المثقفون في هذه المنطقة من العالم. لا بد أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه المنتدى مركزاً حيوياً يساعد على صياغة قرارات ذات صلة بالتنمية ويكون مشابهاً للمراكز البحثية في البلدان المتقدمة التي يطلق عليها "Think Tank".