أكتب بقدر ما يتوافر لي من رغبة، فالكتابة يجب ألا تقهرها وتأتي بها عنوة، ولكنك إذا انسجمت في عمل أدبي وغصت في أعماقه، فستظل تكتب ويمر الوقت دون أن تشعر به. كتاباتي في الخمس عشرة سنة الأخيرة هي كتابات بحثية، أنتقل بين مختلف الأماكن التي تتصل بالنص وأتحسس رائحة الأشياء. فحين كتبت عن مي زيادة مثلا زرت قريتها ووصلت إلى بيتها القديم في الناصرة بفلسطين، حتى إني زرتها في مدفنها. مررت بمستشفى الأمراض العقلية الذي سجنت فيه ما يقارب السنة بعد اتهامها بالجنون. كل هذه الأمور بالنسبة إليّ هي جزء شديد الأهمية من الكتابة. فالكتابة ليست فعلا رومانسيا نمارسه في الغفوة، رومانسيتي في العمل والاجتهاد، ولا أعلم إن كنت أعتبر غزير الإنتاج لكني أشعر دائما أنني لم أقل كل ما اريد قوله، لا يزال هناك أشياء كثيرة أود تقاسمها مع القراء ولكن ذلك يقتضي عمرا آخر غير هذا العمر.
-
ما الذي يدفعك الى الكتابة؟ وهل للكتابة وظيفة اجتماعية؟
عوامل كثيرة، وهناك شيء غامض أنا لا أعرفه، هو شيء محفور في الأعماق، في الكتابة شيء من الغموض وفيها نكتشف عالما جديدا نعيد تركيبه والتخطيط له وإنشاءه من جديد، نحن نحمل شجنا اجتماعيا وطفولة وخيبات ونجاحات وانتكاسات وحبا وكراهية وأمورا أخرى. كل هذا عليه أن لا يبقى منعزلا بل أن يتحول إلى طاقة فعالة وخلاقة في الكتابة والإبداع الفني. نحن نكتب لنكون صوتا ولنسمع صوتنا في هذه الحياة الصمّاء، الكتابة نوع من الخلود، سنفنى إن لم نقل وسنحاسب إن لم نكتب، سيأتي جيل يسائلنا لو بقينا صامتين أمام القسوة التي تهز العالم.
الكتابة لها وظيفة اجتماعية وهي اخراج المجتمع من الظلام، وغرس سلسلة من القيم تعني الحاضر وتستمر الى العصور المقبلة، فنحن اليوم ما زلنا نستهلك كتابات القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، ونشعر بأنها تعنينا لأن الكتّاب الذين كتبوا في تلك الفترة اختاروا الموضوعات الممتدة في الزمان والمكان وعملوا عليها. لهذا أقول دائما إن الموضوعات الصغيرة هي طارئة ولحظوية، اما الموضوعات العميقة كالحرب والحب والإنسانية والضلال كلها قيم تستمر مع البشرية حتى النهاية.
القارئ
-
كيف تصف علاقتك بالقارئ، أتخشاه، أتود إرضاءه، أم أنك حرّ بالكامل عند الكتابة؟
القارئ آخر من أفكر فيه، أفكر في ما أكتب وكيف أتقن ما أكتب وكيف أتحقق منه، أسافر أحيانا من اجل معلومة صغيرة وأظل أبحث عنها إلى أن أجدها، أسأل الناس، أقرأ الكتب المختلفة حتى أصل إلى قناعة بأن نصي يستحق القراءة.
حين أنشر رواية فكأني أرميها في بحر لا أعرف إلى أين يقودها، نحو القرّاء الاعتياديين الذين يعرفونني او نحو قرّاء يرتادونني للمرة الأولى ويتعرفون اليّ، لذا أنا لا اكتب الى قارئ افتراضي لأني لو فعلت فسأكتب برعب.
وحين أكتب أكون أمام تحد وامتحان ذاتي حول المدى الذي تستطيع هذه الذات أن تقول الحقيقة كما سمعتها وكما اقتنعت بها وليس كما قالها المؤرخون وكما قالتها القصيدة، لقد كنت في كل مرة أغير سلسلة من المفاهيم رست عند الناس. ولو لم أفعل ذلك لكنت كتبت نصا ميتا وفقا لما يرضاه الآخرون. أنا أرضي نفسي ككاتب، وأفتح باب النقاش والمساجلة لمن أراد ذلك، لا أهرب من الاسئلة على الإطلاق لكنني لا أنصاع للقارئ.
الكتابة والعائلة
-
هل نلت ما يكفي من الحب واستعدت من خلال نجاحك حبا لم تنله من أبيك الذي رحل مبكرا؟
صحيح أن والدي استشهد خلال الحقبة الاستعمارية (1959) ولكنني في حقيقة الأمر استمتعت بحبه وأنا بعد طفل صغير. ما زلت اتذكره حرفيا بجسده الضخم وهيبته المخيفة وذاك الشعور بالأمان الذي يسقطه عليّ وجوده. صحيح أن هذا الحب الكبير سُرق مني، ولكني غُمرت بحب الجدة والأم التي كانت رمزا للمرأة المقاومة التي لا تستسلم، فهي مناضلة غارقة في العمل اليومي القاسي وهي مع ذلك تربي أطفالها الستة وتهتم بهم وتكبرهم وتمنحهم كل الحب والحياة والجمال. طبعا حين فقدت والدي سكن في داخلي شعور عارم بالفقدان، عوّض بعضه حنان المقربين خاصة جدتي الحكاءة، والبعض الآخر عوّضه فعل الكتابة الذي يرسم هذا النوع من التوازن الداخلي والنفسي.