قد يثير هذا العنوان تعجب بعض القراء ودهشة آخرين، وربما استنكار البعض لأنه يربط، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بين ما لا رابطة تشد طرفيه. فإذا سلمنا بأن الفلسفة إنتاج للتصورات والمفهومات، كما قال دولوز، أو، على الأقل، استخدام لتلك التصورات والمفهومات، فربما أمكننا أن نؤكد أن الأدب بعيد أشد البعد عن المفهومات المغرقة في التجريد وأنه أقرب إلى رسم الصور الخيالية والتعبيرات المجازية.
قد يرد البعض أن هذه المسافة المفترضة بين الممارستين راجعة إلى اعتماد تصور تقليدي عنهما، وأن علينا بالتالي أن نعيد النظر في مفهومنا التقليدي عما نسميه أدبا أولا، ثم عما نطلق عليه فلسفة، وبالأحرى، أن نعيد النظر في العلاقة التقليدية التي دأبنا على إقامتها، أو على عدم إقامتها، بين الأدب والفلسفة.فقد أصبح يتعذر على الكثير منا أن يهدم الأسوار التي تفصل بين الأجناس الأدبية، وبين هذه ومجالات أخرى للدراسة والبحث، وهكذا ترانا نقيم خانات محكمة التحديد، فنقرر التمييز بين ما هو أدب ونفصله عما هو تاريخ أو ما هو فلسفة.وعلى الرغم من ذلك فيبدو أن هناك سعيا لدى الدراسات المعاصرة المختلفة، لا إلى توحيد المعارف، ولكن إلى إقامة جسور تصل بين هذا الفرع من المعرفة وذاك، حتى غدا من المتعذر، في بعض الأحيان، الفصل بين هذا الصنف وذاك سواء عند الباحث ذاته، أو فيما يتعلق بمجالات بحث بعينها.
وهكذا أصبح يتعذر علينا، على سبيل المثال، أن نصنف بعض الكتاب المعاصرين ونحصرهم في خانة بعينها ونمنعهم من دخول أخرى. هذا شأن ميشيل فوكو على سبيل المثال، بين الفلسفة والتاريخ والتحليل النفسي، وهذا أيضا شأن بلانشو وبارت ودريدا. لو اقتصرنا على هذا الأخير مثلا فسنجد أنه معروف كناقد أدبي في الأميركيتين، وكفيلسوف في فرنسا، وكناقد للتحليل النفسي أو اللسانيات المعاصرة، وحتى لفلسفة الحقوق والفكر السياسي في مناطق أخرى.كل هؤلاء سيقولون إن الفلسفة تتحدد بنتائجها التي تتحقق في الكتابة، وإنها تخضع، مثل أي كتابة، للتدفق الدلالي غير المحكوم، وإن مفهوماتها تستند إلى مجازات متوارية، وإنها لا يمكن أن تُتصور خارج المجال النصي المتحقق.
إن الحدود بين الفلسفة والأدب ليست واضحة المعالم، بل ربما لم يعد لها معنى البتة
كل هذا لنقول إن الحدود بين الفلسفة والأدب ليست واضحة المعالم، بل ربما لم يعد لها معنى البتة. ولعل الأمر يرجع من بين ما يعودإليه، إلى التحول الذي عرفته الدراسات الأدبية ذاتها، بل ومفهوم الأدب، وكذا التحول الذي لحق الفلسفة. فالفلسفة اليوم، كما هو معروف، لم تعد تنصب على موضوع بعينه، وإنما غدت أساسا استراتيجية لتقويض الأزواج الميتافزيقية، علما بأن مفهوم الميتافيزيقا ذاته لم يعد جهة من جهات المعرفة، ولا فرعا من فروع الدراسة، كما قال هايدغر. الميتافيزيقا حاضرة في مختلف الأشكال الثقافية التي عرفها، ويعرفها، الإنسان، فهي حاضرة في المعمار، والأعمال التشكيلية، والنصوص الأدبية، أو لنقل إنها حاضرة في كل الأشياء، من حيث أن كل الأشياء كلمات أي من حيث أنها كلها، كما يقول فوكو، تتكلم، أي من حيث أنها لغة. وإذا كان لا بد أن نحتفظ للميتافيزيقا بالتعريف التقليدي، فينبغي أن نضيف إلى ذلك عبارة هايدغر من أن اللغة هي مأوى الوجود ومثواه.تصبح استراتيجية الفلسفة إذن مراوغة للغة وتقويضا للميتافيزيقا وتفكيكا لأزواجها.
التحول الذي عرفته الفلسفة يذكرنا بتحول مشابه عرفه الأدب نفسه الذي غدا، هو أيضا وربما أساسا، استراتيجية لمراوغة اللغة وخيانتها. هذا ما يؤكده رولان بارت الذي يقول: "لست أعني بالأدب جملة أعمال ولا قطاعا من التبادل وإنما الخدش الذي تخلفه آثار ممارسة هي ممارسة الكتابة. وأقصد أساسا النص وأعني نسيج الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي ما دام النص هو ما تثمره اللغة، وما دامت اللغة ينبغي أن تحارب داخل اللغة. سيان عندي إذن أن أقول أدبا أو كتابة أو نصا".
كان نوفاليس قد كتب: "سنكون قد أسأنا إلى الشعراء كما إلى الفلاسفة إن نحن عملنا على التمييز بينهم". لا يعمل هذا القول إلا على بلورة موقف الرومانسيين الألمان الذين كانوا، على حد تعبير موريس بلانشو، يشعرون بما هم يكتبون، بأنهم الفلاسفة الحقيقيون، وأنهم ليسوا مدعوين إلى التمكن من الكتابة، بل أنهم مرتبطون بفعل الكتابة كمعرفة جديدة عليهم أن يتعلموا إدراكها بأن يصيروا على وعي بها. هذا الوعي بالكتابة هو في الوقت ذاته مقاربة لماهية الفكر والأدب معا، وهو ليس مجرد محاولة لصياغة نظرية جديدة في الأدب، وإنما هو النظرية نفسها كأدب.
من جملة النتائج التي ستتمخض عن هذا الطرح ما يمكن أن ندعوه أدبية النص الفلسفي. إنها مسألة تؤكد أن الطرح التقليدي لعلاقة الفلسفة بالأدب، والذي طالما انشغل بتقصي الحدود التي تفصل بين الكتابة الفلسفية والكتابة الأدبية فتساءل، على سبيل المثال، أين يمكن أن نصنف أعمالا من قبيل "هكذا تكلم زارادشت"؟ إن هذا الطرح، بل إن كل المحاولات التجنيسية المتشددة التي تتشبث بفصل الفلسفة عن الأدب وتأكيدها بوصفها خطابا عن حقيقة تنطق بذاتها وتتمتع بامتيازات وتُعفى من أهواء الكتابة، إن كل هذا لا بد وأن يصطدم بواقع التشكيل النصي للفلسفة.ترتبط المسألة إذن بإعادة النظر في كثير من ثوابت الفلسفة. إلا أنها تتعلق على الخصوص بإعادة النظر الجذرية في مفهوم الحقيقة ذاته، وعلى الخصوص في الثنائي حقيقة/مجاز حيث يغدو النص الفلسفي خاضعا للُعبة الكتابة مع ما تفترضه من توليد للاستعارات وفيض للمعاني.
هنا يغدو الأدب، بوصفه حاملا للتجربة الإنسانية العميقة، شهادة على "واقعية" المفهوم، وحينئذ تنهار القطيعة بين التخييلي والواقعي
سيان إذن أن نقول اليوم أدبا أو فلسفة، فنحن في الحالتين كلتيهما أمام كتابة تستهدف مراوغة اللغة وتقويض الميتافيزيقا وتفكيك أزواجها. إننا أمام سيميولوجيا تبحث في منطق المعنى أنى كان وحيثما تولد. هذا البحث في منطق المعنى هو رصد للكيفية التي يعمل بها الخيال، وهو لا يشير فحسب إلى ما تخضع له الثنائيات الميتافزيقية المعهودة التي تفصل بين الخيال من جهة وبين ما يدعى حقيقة أو واقعا من جهة أخرى، وإنما يفكك تلك الثنائيات، بالمعنى العميق للكلمة، أي أنه يجر أحد الطرفين إلى الآخر ليثبت أنه ليس إلا الآخر في ابتعاده عن نفسه.
نحن إذن أمام الاستراتيجية ذاتها. فكل من الاستراتيجيتين، الفلسفية والأدبية، تنصبّ على اللغة، وعلى الكتابة والنص. فحتى الفلسفة، كما يشهد على ذلك "كتاب الفيلسوف" لنيتشه، قبل أن تكون ممارسة استدلالية أو مفهومية فهي ممارسة أسلوبية، فالفلاسفة الكبار هم بالضرورة أسلوبيون كبار. هكذا تصير دراسة فيلسوف ما قاصرة ما لم تُحِط بممارسته الأسلوبية، تلك الممارسة التي كثيرا ما يؤكدها دريدا.فضلا عن هذه الخاصية الأسلوبية، يلح جيل دولوز على كون المفهومات الفلسفية لا توجد في انعزال مطلق، فحتى العمل الأدبي، بقدر ما يرسم من شخوص، بقدر ما ينحت من مفهومات. وشخوص العمل الأدبي لا تدفعنا إلى إعمال الفكر فحسب، بل إنها هي أيضا "تنتسب إلى المفكرين الكبار". فالمفهوم شخصية والشخوص مفهومات. لا يعني ذلك أن الفلاسفة روائيون بالضرورة، غير أن كبارهم، حتى قبل ظهور الرواية ذاتها، نحتوا شخوصا ارتقت إلى مستوى المفهومات شأن أفلاطون وبيركلي ونيتشه وسارتر، فشخصية زرادوشترا، على سبيل المثال، تشكل النقطة التي لا نستطيع أن نميز عندها المفهوم عن الشخصية.
لا عجب إذن أن تغدو النماذج الأدبية حقول اختبار للفلسفة، وتصبح الشخوص شواهد اختبارية على المفهوم. يكفي أن نشير هنا، على سبيل المثال، إلى توظيف جيل دولوز لـ "أليس" لويس كارول، التي تكبر إذ تصغر وتصغر إذ تكبر، باعتبارها تجسد معنى الصيرورات المزدوجة التي يتحدث عنها كتاب "منطق المعنى". هنا يغدو الأدب، بوصفه حاملا للتجربة الإنسانية العميقة، شهادة على "واقعية" المفهوم، وحينئذ تنهار القطيعة بين التخييلي والواقعي.
لا يكون في استطاعتنا أن نؤكد ذلك ما لم ننظر إلى العمل الأدبي وإلى الفلسفة بوصفهما يشهدان على الحياة، وما لم نمنح الأدب وجودا حقيقيا بوصفه خزانا للخبرة البشرية بكل عمقها، وما لم نؤمن بأن الأدباء والفلاسفة "يدركون أشياء تفوقهم عظمة" كما يؤكد جيل دولوز.