رفح: لا حديث للناس في مدينة رفح، حاليا، سوى عن التهديد الإسرائيلي المعلن أخيرا باجتياح المدينة الحدودية الواقعة أقصى جنوب فلسطين، وقد نزح إليها أكثر من مليون وأربعمئة ألف فلسطيني خلال الحرب.
على مدار النهار، تكتظ شوارع رفح بالمواطنين المشردين، الهاربين من أجواء الخيمة الخانقة، يمشون بلا هدف، ولربما يتدافعون ويتزاحمون لقتل الوقت، أو تهدئة الهواجس التي لا تفارق تفكيرهم ومخيلتهم.
وجوه الناس يكسوها التعب والألم والإحباط والخوف، وكأنها غارقة في أنهار من الأفكار المرعبة. فلا أحد يلتفت إلى الآخر، وقد يمر شخص بآخر دون أن يراه. وكأن الجميع يمضي دون عقله، فقد سلبت هذه الحرب الغزيين عقولهم، كما سلبتهم كل ما عرفوه من حياتهم السابقة.
أبواب موصدة
ما أن أعلنت حكومة الاحتلال نيتها الهجوم البري على رفح، التي لا تتخطى مساحتها 55 كيلومترا مربعا، حتى استبدّ القلق والوجوم بقلوب الجميع، فصاروا قليلي الكلام، تطفح ملامحهم بالتوتر والقلق، وتخرج من عيونهم النظرات المحبَطة، والخوف والحيرة، حيث لم يعد من مكان للهرب، وأينما التفتوا، ما عادوا يجدون سوى الأبواب الموصدة، وحتى الصحراء لم تعد خيارا بالنسبة إليهم.
نجد أنفسنا مجددا أمام احتمالين: النزوح، دون أن تكون هناك وجهة له، أو الموت
نازح في رفح
"باتت تنطبق علينا مقولة: البحر من أمامكم والعدو من خلفكم"، يقول خليل عبد الخالق (36 عاما) النازح من مخيم النصيرات، "لكننا لسنا مقاتلين ولا مسلحين، ولا حيلة لنا في كل ما يجري. بعد أشهر من النزوح والعذاب، وفي حين كنا نتأمل نهاية هذه الحرب والعودة إلى ديارنا، نجد أنفسنا مجددا أمام احتمالين: النزوح، دون أن تكون هناك وجهة له، أو الموت حيث نحن، وتدمير المدينة فوق رؤوسنا".
يصف عبد الخالق حال النازحين في رفح: "حين أمشي حاليا في الشوارع قد اصطدم بعشرات الأشخاص خلال دقائق، من شدة تزاحم الناس وكثرة عددهم، فما بالك لو دخلت الدبابات، ودهمت هؤلاء الناس، أظن أن ما سيحدث كارثة ستصدم الجميع، وكأن الحرب لم تبدأ بعد، القادم على رفح هو الحرب".
خفوت الأمل
لما يقارب الخمسة أشهر، يتكبد الفلسطينيون خسائر فادحة في ممتلكاتهم وأرواحهم، ويفرض عليهم ترك منازلهم، حتى لم يعد لديهم ما يخسرونه سوى الأرواح. ولأنه شعب اعتاد العيش على الأمل، فقد داعبت فكرة نهاية الحرب مخيلتهم، كما كان يحدث في الحروب السابقة، لكن هذه المرة مسحت قسوة الحرب وصمت العالم، تلك المسحة من التفاؤل، وبات الشعور بالخذلان في كل مرة يكبر. يقول عبد الخالق: "أشعر بالسأم من كل ما مضى، وكأنني كنت أجري وألهث لوقت طويل جدا، وكلما أردت التوقف، تأتي الحرب وتلاحقني من جديد".
يضيف: "شيء لا يتخيله عقل أن يفكر الاحتلال في اجتياح رفح بعدما حشر معظم أهل القطاع داخلها، هذا سيؤدي إلى وقوع مجازر غير مسبوقة، وكلما تخيلت حدوث ذلك، شعرت أن أصواتا تصرخ في داخلي، ورأيت في مخيلتي أهلي وهم يتعرضون للإبادة والتعذيب في شوارع رفح، وأظن أن ذلك إن حدث، فسيكون وصمة العار الأكبر على جيين العالم برمته".
تدافع وهروب
تشاركنا إيناس الغزالي (45 عاما)، النازحة إلى رفح من غرب غزة لمحات من معاناتها: "إنني أعيل أمي المريضة والمقعدة، وأطفالي، وحقيقة لست أدري ماذا سأفعل، في حال جنّ الاحتلال وتوغل بريا في رفح، أو طلب منا النزوح إلى مكان آخر؟ بالكاد كنت قد نصبت الخيمة لي ولأولادي حين نزحنا من غزة إلى رفح، وتحملنا البرد والجوع والرعب، والآن فكرة التهجير الجديد تشعرني باليأس الشديد من الخلاص".
تتابع الغزالي: "أفكر بتلك الليلة التي سيتحتم علينا فيها الإخلاء، حالة الهلع، والخوف التي ستصيبنا، كيف سنفكك الخيمة، كيف سنحملها، إنها ثقيلة جدا، وكيف سأساعد أمي على الفرار تحت تهديد الموت والقصف، وكيف سأحمي أطفالي، وإلى أين سأذهب بكل هؤلاء، وقد استشهد زوجي خلال الحرب، ولم يعد لي سند في هذا العالم".
تضيف: "أخاف لحظة التدافع والهروب العشوائي للناس، حال توغل الاحتلال، أخاف من فقدان أحد أطفالي، أو أن لا اتمكن من العبور بأمي بين الحشود الهاربة، صرت أخاف من كل شيء، أفكار بشعة جدا تضرب رأسي في كل لحظة".
مرة واحدة لا تكفي
أما سالم البايض (43 عاما)، النازح من شرق غزة إلى رفح، فيقول بحسرة: "كأن الهرب من الموت مرة واحدة لا يكفي، فهناك هروب جديد علينا الخضوع له دون أي بارقة أمل". يشير سالم بذلك إلى شقيقه الذي قضى في مراكز الإيواء بفعل انتشار مرض الكبد الوبائي، معتبرا أن هجوم الاحتلال المحتمل على رفح سيحدث فوضى عارمة، ومن لن تقتله المدافع والرصاص سيقتله التدافع".
أفكر بتلك الليلة التي سيتحتم علينا فيها الإخلاء، كيف سأساعد أمي على الفرار تحت تهديد الموت والقصف، وكيف سأحمي أطفالي؟
نازحة
يختصر البايض حال جميع النازحين بقوله: "أشعر بأنني أصارع في متاهة بداخلها وحش يلاحقنا، وبعدما نجوت بأطفالي وزوجتي عبر المراحل كافة، بتنا محشورين في غرفة ضيقة نواجه هذا الوحش وحدنا، هذا يولد داخلنا عجزا لا يمكن احتماله، وخوفا من الحياة لا نستطيع فهمه، فبعد تشريدنا والتنكيل بنا وبجثث أحبابنا وتجويعنا وإفقارنا، علينا أن نواجه جيشا بلا أخلاق، لا يريد سوى قتلنا. أحاول ألا أتخيل اللحظة التي سيخبروننا فيها ببدء الاجتياح البري لرفح، ستكون تلك نهاية كل شيء، مجرد الحديث عنها يجعل قلبي يرتعش، وكأنني أمضي إلى المجهول. ولا أعرف كيف لا يزال العالم صامتا أمام كل ما يجري؟".
يختم البايض: "نعم أنا خائف، ومشتت وتائه، لست قويا ولا بطلا، أنا مجرد إنسان مطرود من منزله، يقبع في العراء، يلاحقني وأطفالي الموت أينما ذهبت، لا أستطيع الرحيل، ولا العودة إلى منزلي الذي تهدّم، نحن لسنا أبطالا خارقين كما يروج بعض الجمهور العربي، فما تعرضنا له لا يحتمله بشر، وآن الأوان لأن يتوقف القهر والإذلال والتشريد، لا أن يُفتح فصل جديد في هذه الحرب اللعينة".