الثرثرة السياسية في العراقhttps://www.majalla.com/node/310966/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%B1%D8%AB%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
يتوهم كثير من ساسة العراق أن تصريحاتهم ولقاءاتهم في القنوات الفضائية، وحتى منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي تترك صدى واسعا في أوساط الجمهور العراقي. بل حتى في الأوساط العربية والدولية! يخرج بعضهم على الشاشة أو يكتب تغريدة على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، ويعتقد أنها ستشغل الرأي العام العراقي. في حين تقابل الكثير من هذه التصريحات بالسخرية والاستهزاء، وتكون الردود قاسية جدا من قبل بعض المدونين.
هناك الكثير من ترسبات وبقايا الحكم الشمولي تتحكم بالمجال السياسي في العراق. ولعل من أهمها ظاهرة الثرثرة السياسية التي بدأت تطغي على أحاديث السياسيين وحاشيتهم. وإذا كان النظام الشمولي قد احتكر وسائل الإعلام لترويج أحاديثه وخطاباته، فنحن الآن أمام زعماء وسياسيين يمتلكون قنوات تلفزيونية ولديهم صفحات في وسائل التواصل الاجتماعي وباتوا حاضرين وبقوة في برامج الحوارات السياسية. ليس هذا فحسب، وإنما بدأوا يستعينون بدكاكين ترفع عناوين مراكز الأبحاث أو الدراسات تقدمهم باعتبارهم أصحاب رؤية لحل الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تعصف بالعراق. في حين يعرف القاصي والداني أن هذه الأزمات هي من نتاج سيطرتهم على مركز القرار السياسي وتقاسمهم مؤسسات الدولة باعتبارها إقطاعيات حزبية لهم ولزبائنهم السياسيين.
حالة التوصيفات من قبل القيادات السياسية ورؤساء الحكومات للأزمات السياسية الداخلية والخارجية التي يمر بها العراق، يمكن إدراجها ضمن خانة الثرثرة السياسية. فعندما تستمع إلى زعيم تكتل سياسي أو حزبي أو رئيس الوزراء والوزير وحتى البرلماني، تجده يسهب في سرد مكامن الفساد والفوضى الإدارية والبيروقراطية. وينتقد المحاصصة والمحسوبية والولاءات الفرعية وكأنه غير مسؤول عن هذا الواقع أو غير مشارك في المنظومة الحاكمة التي أنتجت كل هذه الفوضى والفساد.
مشكلة السياسيين العراقيين هي عدم التمييز بين الخطاب السياسي والثرثرة السياسية
ويميل زعماؤنا السياسيون إلى الثرثرة في نقد الأوضاع السياسية، على عكس السياسيين في المعمورة الذين يدرسون المشاكل لتفاديها بأقل السبل إثارة للشقاق. أما الزعماء عندنا فيتسلون بالمشاكل والغوص فيها وبإدامة الأزمات، لا بل أدمنوا عليها. فالسياسي عندنا عموما، وصاحب القرار خصوصا، يتسلى في إنتاج المشاكل بالجملة أو بالتتابع حتى أصبح لديه فولكلور. والسياسي عندنا يريد أن يتمتع بالامتيازات التي يوفرها منصبه، ولكنه لا يريد أن يتحمل المسؤولية باعتباره جزءا من المنظومة السلطوية المعنية بتوفير الحلول للأزمات وليس الاكتفاء بوصفها وتشخيصها.
تعبر الثرثرة السياسية عن نوع من الانفصام بين الزعامات والجمهور. باستثناء جمهور الأحزاب السياسية. وأغلب الخطابات يمكن وصفها بأنها عبارة عن توهم بوجود معركة بين الحق والباطل يقودها زعماء الأحزاب وأن القدر قد اختارهم ليقودوا هذه المعارك التي تعبر عن شعارات وأيديولوجيات لا علاقة لها بمعاناة المواطن ومتطلبات معيشته. لذلك تجدهم يرفعون شعار المقاومة وهم بيدهم مقاليد السلطة والحكم، ويرفعون شعار المظلومية ويتحكمون في القرار السياسي وشركاء في تقاسم موارد الدولة.
مشكلة السياسيين، هي عدم التمييز بين الخطاب السياسي والثرثرة السياسية، فالأول هو بناء من الأفكار يقوم على أرضية فلسفية تكون مرتكزا لرؤية سياسية محددة الأبعاد والغايات والأهداف، وتستخدم مفرداتها اللغوية بطريقة منسجمة. أما الثرثرة السياسية فهي مجرد لغو فارغ وأحاديث تعبر عن نرجسية سياسية تريد أن تسوق نفسها بأنها صاحبة فضل في تصديها للشأن السياسي، وتقدم نفسها باعتبار صاحبها يعلم الخفايا والأسرار التي لا يدركها المواطن العادي، ومرتكزها الرئيس في أحاديثها هو نظرية المؤامرة والحديث عن إنجازات لا يتلمس منها المواطن أي شيء.
وحتى تتأكد من تورط كثير من السياسيين في داء الثرثرة السياسية، بنقرة بسيطة على "غوغل" أو "يوتيوب" أو حتى متابعة مواقعهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، ستجد أن هوسهم بالحديث يتغلب على رغبتهم في الاستماع. إذ في أغلب الملتقيات تجدهم متحدثين لا مستمعين، ويبدو أن ذلك من أهم مؤشرات وجود خلل في الثقافة السياسية والاجتماعية. انظروا إلى لقاءات رؤساء الحكومات عندما يلتقون النخب الثقافية والأكاديمية والإعلامية، تجدهم كثيرا ما يتحدثون وقليلا ما يستمعون.
ومن أبرز نماذج الثرثرة السياسية، أحاديث ومقالات المسؤولين الحكوميين بعد مغادرتهم المنصب. تصور مثلا شخصية سياسية مثل إياد علاوي أول رئيس وزراء بعد تغيير نظام الحكم في العراق، يتحدث في آخر لقاء تلفزيوني معه عن "حبه لصدام حسين" لأنه "شجاع وجريء و(سبع) كما نسميه في العراق، ومخلص لأصدقائه ولحزبه ولبلده". يمكن تصور كمية الاستخفاف بالتاريخ السياسي لشخص عارض نظام صدام حسين، عندما يصفه بهذه الصفات بعد عشرين عاما من مشاركته في إسقاط نظامه، إذ لو كان صدام بهذه الصفات فلماذا عارضته، ولماذا كنت تصفه بالحاكم الدكتاتور؟ وكيف يمكن أن تبرر جرائمه بحق شعبه وحروبه العبثية التي كلفت العراقيين الأرواح والأموال الطائلة؟
عادل عبد المهدي رئيس الحكومة الذي أقالته احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، عاد مرة أخرى لممارسة "التنظير السياسي"، ولكنه في الحقيقة بعيد عن التنظير وقريب من ثرثرة العجائز عن أمجاد الماضي الغابر. في آخر لقاء تلفزيوني وصف مظاهرات أكتوبر بأنها ضمن مؤامرة حاكت خيوطها أميركا. ليعود ويصف أحداث أكتوبر بأنها "تمثل مطالب مشروعة بنسبة 99 في المئة، لكن هناك مندسين من داعش وحزب البعث وأصحاب المصالح وقوى خارجية".
تمثل الثرثرة السياسية أنموذجا لخطاب سياسي مأزوم بالشخصنة
توقفت كثيرا عند هذه المقاربة التي تحدث فيها عبد المهدي، كونها تمثل توصيفا أيديولوجيا للحركات الاحتجاجية كان دائما ما يردده الماركسيون، وهو "البروليتاريا الرثة". وهي- بحسب الأدبيات الماركسية- الجموع الجماهيرية الجاهزة للجري وراء كل مخادع ومدع.
لم يفكر عبد المهدي بمراجعة حديثه الذي يسوقه للرأي العام، ولا يهتم بمحاكمته. إذ كيف يمكن أن تصف احتجاجات 99 في المئة لديهم مطالب مشروعة، لكن يؤثر فيهم واحد في المئة فقط؟ ولا يريد أن يسأل نفسه، عن قدرة ومؤهلات وأدوات الواحد في المئة من "داعش" وتنظيمات حزب "البعث" ومن يشتغل لصالح أميركا وإسرائيل ليكون مؤثرا في احتجاجات شعبية، في حين أن من بيدهم السلطة طوال عشرين عاما لم يتمكنوا من التغلغل داخل المجتمع وإقناعهم بشرعية حكمهم؟
ويبدو أن مهمة السيد عبد المهدي تحولت من الدفاع عن تجربة الحكم بعد عشرين عاما، إلى تقديم التبريرات للفوضى والفساد التي أنتجتها تجربة الحكم هذه. إذ يرفض توصيفات الدولة في العراق بأنها "دولة لصوصية ومافياوية/ ميليشياوية/ طائفية"، ويعدها "توصيفات ظالمة".
عدوى الثرثرة السياسية، انتقلت إلى رئيس الوزراء السابق السيد مصطفى الكاظمي، فبعد أن اشتهر بأنه "يرقص مع الأفاعي" كما صرح لصحيفة "الغارديان" البريطانية، بالقول: "أرقص يوميا مع الثعابين ولكني أبحث عن مزمار للسيطرة عليها". وهو يدرك جيدا أن هذه "الثعابين" أصبحت الآن هي التي تسيطر على القرار السياسي وموارد الدولة في العراق، إلا أنه يدعو في مقالات له إلى " ضرورة المصارحة... لتحقيق مصالحة شاملة".
الثرثرة السياسية، أصبحت متلازمة للحديث عن محاربة الفساد في العراق، فرئيس الوزراء الحالي السيد محمد شياع السوداني، تحدث في أول لقاء تلفزيوني معه عن "سرقة القرن"، وإذا لم يكن في هذه القضية محاسبة واسترداد للأموال المسروقة، فالحديث عن مكافحة الفساد "عبث وضحك على الذقون". وبعد ما يقارب عاما ونصف العام على تولي الحكومة مهماتها لم نجد لا استرجاعا للأموال ولا محاسبة للمتورطين.
تمثل الثرثرة السياسية أنموذجا لخطاب سياسي مأزوم بالشخصنة، وتعبر عن محاولة اختزال الوطن والدولة في مزاج الأشخاص الذين تحولوا بفضل وصولهم إلى السلطة أو عناوينهم الرمزية إلى قادة في بلد يعشق فيه الجمهور الزعامات والذوبان في أوصافهم ومقولاتهم من دون تقييم أفعالهم. ولذلك تكون أغلب المواضيع التي تحدث فيها السياسيون في العراق عبارة عن مهاترات سياسية تحاول استغفال الجمهور من خلال تشتيت أنظار الرأي العام بسجالات استعراضية عن القضايا الرئيسة والمصيرية التي تتعلق بحياة المواطن، وهنا يتبادل الزعماء الأدوار هم وحاشيتهم من الأتباع والانتهازيين في الترويج لمثل تلك المهاترات.
كل زعيم سياسي يريد أن يخبرنا بأنه يملك القدرة على حل جميع الأزمات في العراق
عندما يتخلى البرلمانيون عن وظيفتهم في الرقابة والتشريع ويتحولون إلى ضيوف دائمين في البرامج الحوارية في الفضائيات، ويعبرون فيها عن قناعات زعمائهم، وتكون خلافاتهم عن توزيع الحصص في المناصب العليا، فهذا النموذج من الثرثرة السياسية لا يوجد إلا في بلد مثل العراق.
ويمكن تخيل أن كل زعيم سياسي يريد أن يخبرنا بأنه يملك القدرة على حل جميع الأزمات في العراق، لكن المشكلة في الآخرين الذين يعرقلون مسيرته. وفي النتيجة أصبحت مثل هذه الخطابات واحدة من أهم معوقات وجود زعامة سياسية تؤهلها إلى أن تكون كاريزما وطنية. ولذلك لم تترك الثرثرة السياسية رمزية وطنية إلا وحولتها إلى مصدر للجدل وحتى التسقيط السياسي؛ لأنها لا تؤدي إلا وظيفة واحدة فقط وهي تفرقة المجتمع وتمزيقه أو الإبقاء عليه ممزقا بكانتونات طائفية وقومية وحزبية.
ويمكن وصف الثرثرة السياسية باعتبارها أنموذجا لشعبوية خطاب الطبقة السياسية، فهذه الطبقة تسوق نفسها على أنها- وهي دون غيرها من بقية الجماهير- تملك الحنكة والخبرة والدراية في معرفة دهاليز السياسة، وما يخطط له الأعداء من مؤامرات. ولذلك تجدها تقاتل على أكثر من جبهة، تارة تجدهم يهاجمون خصومهم من السياسيين، وأخرى تجدهم يهاجمون دولا من الجوار الإقليمي أو دولا كبرى باعتبارها تملك مشروعا يستهدف العراق وشعبه. ويتم تسويق ذلك في خطاب سياسي مشحون بالعبارات الطائفية والقومية ضد الآخر الشريك في الوطن وتخوينه.
ولا تكاد تخلو أحاديث السياسيين عن المتآمرين الذين أفشلوا مشاريعهم السياسية التي كان هدفها بناء دولة، وعن المنجزات والعمل في ظروف صعبة وتحديات أمنية وسياسية لم تواجهها أي دولة أخرى في العالم. ويبدو أنهم لم يقرأوا عن صدارة العراق لتصنيفات الدول الأكثر فشلا وفسادا، وأن الكثير من مدنه غير صالحة أو غير آمنة للعيش فيها.