منذ أن خاطر توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، بسمعته السياسية عندما غزا العراق تحت قيادة الولايات المتحدة، عمل بلا كلل على حل التحديات الكثيرة التي تواجه الشرق الأوسط في العصر الراهن، ولم يكن لبلير دور كبير في المنطقة قبل ذلك.
صعد بلير في البداية إلى الصدارة من خلال تحويل حزب العمال في المملكة المتحدة إلى "حزب العمال الجديد"، وهو عامل مهم في فوزه الساحق بانتخابات عام 1997. وكانت مشاركته الرئيسة في الشؤون الدولية في ذلك الوقت هي دوره البارز في حل أزمة كوسوفو أواخر التسعينات، عندما نجح في إقناع الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون بنشر قوات حلف شمال الأطلسي العسكرية ضد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش مما أسهم في إنهاء الصراع.
فضلا عن ذلك فإن مشاركة بلير الحاسمة في "اتفاق الجمعة العظيمة" عام 1998، والذي وضع حدا لسنوات من الصراع في أيرلندا الشمالية، وأنشأ بروتوكولات جديدة لتقاسم السلطة بين الكاثوليك والبروتستانت، عززت إلى حد كبير سمعته كرجل دولة عالمي من طراز رفيع.
تدخل بلير في الشرق الأوسط اعتبر جهدا لإعادة تأهيل صورته وتمويل "معهد بلير للتغير العالمي"
غير أن مشاركته في الشرق الأوسط ظلت محدودة نسبيا حتى هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، عندما أفضى تصميمه على الوقوف "كتفا إلى كتف" بجانب الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش في الرد على الهجوم، إلى أن يتعرف بخشونة على عالم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط المليء بالتحديات.
وبعد موافقة بلير على تقديم الدعم العسكري البريطاني للتدخل العسكري الأميركي بالأساس في أفغانستان لتدمير شبكة "القاعدة" الإرهابية بزعامة أسامة بن لادن، والمتهمة حينها بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر، سرعان ما وجد بلير نفسه متورطا بعمق في القرار الأكثر إثارة للجدل الذي اتخذته إدارة بوش بغزو العراق والإطاحة بالنظام البعثي الحاكم فيها.
ومع أن الحملة العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة نجحت في نهاية المطاف في إزاحة صدّام عن السلطة، فإن ما ألحقته بالشعب العراقي من خراب، مع انزلاق البلاد سريعا إلى حرب طائفية مريرة، ألحقت ضررا كبيرا بسمعة بلير الدولية.
لذلك فإن تدخل بلير في الشرق الأوسط لاحقا ولا سيما بعد أن قرر التنحي عن منصب رئيس الوزراء ومغادرة داونينغ ستريت عام 2007، اعتبر جهدا لإعادة تأهيل صورته في المنطقة، فضلا عن أن ذلك يساعد في تمويل معهد بلير للتغير العالمي، المؤسسة التي تمثل أنشطة بلير العالمية.
جاء التزام بلير الشخصي بحل بعض أكثر النزاعات استعصاء في المنطقة كالقضية الإسرائيلية الفلسطينية التي طال أمدها، نابعا من انخراطه أساسا في الترويج لخارطة الطريق التي وضعتها إدارة بوش للسلام في الشرق الأوسط، وهي سلسلة من المبادرات المصممة لتشجيع الإسرائيليين والفلسطينيين مدة ثلاث سنوات للمضي قدما نحو إنشاء دولة فلسطينية يمكن أن تعيش بسلام مع إسرائيل.
وبينما أخفقت هذه المبادرة في تحقيق هدفها النهائي بتنفيذ حل الدولتين لهذه للقضية فإنها أرست أسس انخراط بلير المتعمق في المنطقة.
كان بلير مقتنعا بأن أفضل طريقة لدفع عملية السلام في الاتجاه الصحيح هي العمل على تقوية الاقتصاد الفلسطيني
وعلى الرغم من المخاوف الفلسطينية من ارتباطه الوثيق بإدارة بوش مما عرضه لتهمة الانحياز لإسرائيل، فقد سعى بلير إلى تشجيع الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين لحل خلافاتهما، مستفيدا من خبرته في التفاوض مع الفصائل المتحاربة في أيرلندا الشمالية في تحقيق "اتفاق الجمعة العظيمة".
وبعد تعيين بلير عام 2007 كمبعوث خاص للجنة الرباعية الدولية- المؤلفة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا- والمشكّلة لحل عدد من القضايا الإقليمية العالقة، عمل الرجل بلا كلل لكسر الجمود، مع أن جهوده لم تكن دوما موضع تقدير كبير.
وكيفما نظرنا إلى الأمر فقد أُعطي بلير مهمة مستحيلة، إذ لم يُظهِر الإسرائيليون ولا الفلسطينيون قدرا كبيرا من الالتزام بحل خلافاتهما في أثناء السنوات الثماني التي قضاها بلير في هذا المنصب، الذي لم يتقاض عليه أي أجر.
ومع ذلك، كان بلير مقتنعا بأن أفضل طريقة لدفع عملية السلام في الاتجاه الصحيح هي العمل على تقوية الاقتصاد الفلسطيني فالتنمية الاقتصادية، نظريا، إلى جانب الأموال المتدفقة في المؤسسات السياسية، ستجعل الدولة الفلسطينية أكثر قابلية للحياة، وأقل احتمالا في أن تقع تحت سيطرة "حماس" أو أي تنظيم متطرف.
ومع أنه استجر لنفسه الانتقادات بسبب عمله كمبعوث بدوام جزئي فقط، فقد تمكن من تحقيق عدد من التحسينات المتواضعة للفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية، مثل دفعه الإسرائيليين لتقليل عدد نقاط التفتيش في الأراضي المحتلة ومساعدته في تسهيل استخدام رجال الأعمال الفلسطينيين معبر اللنبي من وإلى الأردن.
ويمكن القول إن ذروة مهمة بلير جاءت عام 2013 عندما سمحت إدارة أوباما له بالإشراف على حملة استثمار في الأراضي المحتلة بقيمة 4 مليارات دولار هدفت إلى إعطاء دفعة إطلاق للاقتصاد الفلسطيني.
وتوقع فريق من الخبراء جمعه بلير لتنفيذ المشروع أن تؤدي الخطة إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني بنسبة 50 في المئة على مدى ثلاث سنوات، وخفض البطالة بنسبة الثلثين من 21 في المئة إلى 8 في المئة، ورفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 40 في المئة.
المسؤولون الإسرائيليون والفلسطينيون اشتكوا من أن بلير يبدو متعجرفا ومتسيدا
وفي الواقع كانت إنجازات الخطة متواضعة إلى حد كبير، لأسباب ليس أقلها القيود التي فرضتها إسرائيل وحَدّت بذلك من نطاق برنامج التنمية. ومع ذلك سمحت مشاركة بلير بحدوث تحسن ملحوظ لمستويات المعيشة في المدن الفلسطينية الكبرى مثل رام الله، على الرغم من أن الممارسات الفاسدة لبعض المسؤولين الفلسطينيين ساهمت في تقويض الفوائد الاقتصادية، في حين سجلت مدينة بيت لحم المسيحية زيادة ملحوظة في مواردها السياحية.
وكما علق توم غروس، المعلق المختص بشؤون الشرق الأوسط، لاحقا، على أداء رئيس الوزراء السابق، فقد "كانت لدى بلير الفكرة الصحيحة أكثر بكثير مما أعطي من تفويض. فأراد بناء السلام من الألف إلى الياء لا مجرد القيام بإيماءات كبيرة أو المشاركة في التقاط الصور".
لم يكن دور بلير كمبعوث خاص يخلو من الانتقادات؛ فالمسؤولون الإسرائيليون والفلسطينيون اشتكوا من أنه يبدو متعجرفا ومتسيدا، مع إشارة الجانبين إلى أنه لم يقض في المنطقة ما يكفيه ليتفهم تماما قوة المشاعر نحو القضايا الرئيسة.
وفي الوقت الذي استقال فيه بلير من منصبه في مايو/أيار 2015، كانت علاقته مع قيادة السلطة الفلسطينية قد انهارت بالكامل تقريبا. وعلقت الناشطة الفلسطينية المخضرمة حنان عشراوي عندما ظهرت أنباء استقالته أخيرا بالقول: "لا مفاجأة في ذلك. فقد كان واضحا منذ فترة طويلة أن لا شيء يُنجز على الإطلاق". كما أشارت التقارير إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تزايد شعورهما بالإحباط الشديد من علاقة بلير السيئة مع القيادة الفلسطينية حتى إنهما شرعا في الضغط عليه كي يستقيل.
وذهب المتحدث باسم السلطة الفلسطينية إلى أبعد من ذلك حين أعلن أن بلير كان "شخصا غير مرغوب فيه منذ مدة". وقال: "لم يتولَ بلير مسؤولية منصبه منذ مدة طويلة، لذا فوجوده في المنصب أو عدمه سيان تقريبا".
وأدت تفاعلات بلير المكثفة مع الزعماء العرب الرئيسين إلى إثارة الشكوك من جانب المسؤولين الإسرائيليين، الذين شككوا في فعاليته من جهة إعادة تنشيط عملية السلام. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت أنشطة بلير قبل إنشاء "معهد توني بلير" عام 2016 في تعقيد منصبه، فقد شارك في أدوار استشارية لمختلف الشخصيات المثيرة للجدل، بما في ذلك نور سلطان نزارباييف، الزعيم السابق لكازاخستان، في أعقاب انتفاضة عام 2011 المناهضة لحكمه هناك. وامتدت أعماله الاستشارية إلى الكويت وكولومبيا وفيتنام أيضا.
نتنياهو يدرس الاستفادة من تجربة بلير لمعالجة المخاوف الدولية بشأن الآثار المدنية للأعمال الإسرائيلية في غزة
وعلى الرغم من هذه الخلافات فإن سمعة بلير في العالم العربي تبدو غير متأثرة، بل ربما تحسنت. وتظهر الأبحاث التي أجريت حول عمليات "معهد توني بلير" نجاح بلير في تأمين اتفاقات مربحة مع الدول العربية. وبحسب ما ورد، فقد اعتمدت دول خليجية على "مؤسسة بلير" للحصول على مساعدة في التوجيه الاستراتيجي. وفي البحرين، كان للمعهد دور فعال في جهود التحديث الحكومية الطموحة في البلاد. وبالمثل، يقال إن المؤسسة قدمت المشورة للمملكة العربية السعودية بشأن مبادرة التحديث "رؤية 2030".
وفي الوقت نفسه، جرى تسليط الضوء على روابط بلير الطويلة الأمد مع الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر/كانون الأول، خلال ظهور بارز في قمة تغير المناخ (Cop28)، والتي التقى فيها بكثير من زعماء العالم.
وأنشأ "معهد توني بلير" (TBI) مكتبا له في أبوظبي، يركز على تطوير الاستراتيجيات السياسية للدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وينعكس هذا التوسع في أنشطة المركز على نموه المالي، حيث ذكر في تقريره المالي زيادة بنسبة 50 في المئة في دخله من الحكومات الأجنبية خلال العام الماضي. ولتسهيل هذا النمو، أعيدت هيكلة المعهد، مما أدى إلى تخفيض كبار موظفي السياسة في لندن مع توسيع التوظيف في الخارج.
ويتمتع المعهد أيضا بدعم مجموعة واسعة من الجهات المانحة، بما في ذلك مؤسسة "بيل وميليندا غيتس"، ومجموعة "لويدز المصرفية"، على الرغم من تعرضه لانتقادات بسبب أنشطته في الشرق الأوسط. وقد أدى تورط توني بلير المتزايد إلى تكهنات حول توليه دورا جديدا في المنطقة، ربما باعتباره مسؤولا عن تنظيم العمليات الإنسانية في قطاع غزة بعد وقف الأعمال العدائية بين إسرائيل و"حماس".
وأشار تقرير حديث صادر عن موقع "واي نت" الإعلامي إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدرس الاستفادة من تجربة بلير كمبعوث سابق لمعالجة المخاوف الدولية بشأن الآثار المدنية للأعمال الإسرائيلية في غزة. وفي حين أن قبول بلير لمثل هذا الدور لا يزال غير مؤكد ويتوقف على الوضع في غزة بعد الصراع، فإن ترشيحه لهذا المنصب يشير إلى نفوذه المستمر كشخصية سياسية عالمية بارزة، على الرغم من الخلافات الماضية في المنطقة.