الصعود إلى قمة مِبرِح

حوار داخلي يتلصّص على المكان

الصعود إلى قمة مِبرِح

في طريق وعر لا يشبه سوى نفسه، وباتجاه قمة جبل مبرح بين الفجيرة ورأس الخيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة، بهدف زيارة سكان تلك القمم، أولئك الذين يتمسكون بها ويعتزون بأراضيهم المرتفعة، كانت الرحلة تشبه السِر البهي النقي، عبر طرقات تشبه السراب في شدة انحدارها، مع مشاهدة بحر الخليج العربي من تلك الذروة، وبين الطرقات تصادفك الوعول بقرون تشبه القمر في رسم الهلال. فأصبحنا خلال رحلتنا هذه أسرىالجبال وغوايتها المتقنة، حتى وصلنا إلى مجموعة منازل حجرية، واتجهنا إلى منزل بعينه سنحلّ ضيوفا عليه، لنلاحظ أن حدود بيوت الجيران ليست كحدود الازقة بين البيوت كما هي في الساحل، بل هي بيوت بين قمم متقاربة، بعضها قمم منخفضة، وبعضها مرتفع،منها قممقريبة ومنها بعيدة، إلا أن جميع السكان ينتسبون إلى شجرة عائلية واحدة، وعمومهم منأهل القمم إلى يومنا هذا.

كان الطريق الوعر مفتوحا على منحدرات شاسعة، تشبه طرقات القصص المحكومة بالدهشة، حتى اقتربنا وأصبحنا ضيوفا على أهل الجبل، لنكتشف أن هذا المكان وطن خاص، يستحق أن يكتب عنه، بالمشاهدة، تجليات جميلة في أدب الرحلة.

فكرت حينها بمجهول الكتابة، أمام عمق هذه المخاطرة، وفي صميم التقصي حول متعة الفكرة الجمالية السماوية هذه، والمضيف الجبليّ يتحدث بفخر كيف أنهم رفضوا عروض كل الشركات العالمية والمحلية، ومناشدة بعض رجال الأعمال لهم من أجل شراء مساحاتهم وبيوتهم وأملاكهم في تلك القمم التي تمتد إلى عشرات الكيلومترات، وبمبالغ مغربة، من أجل إقامة منتجعات سياحية، فكان الرفض والاستياء هو الجواب المشترك بينهم، لأنهم لا شيء دون جبالهم، وسيذوبون في الحياة الأرضية إن باعوا قممهم وبيوتهم الحجرية وإن كانت هذه الأخيرة بلا طرق معبدة، وبلا خدمات، وإن انطوت على مخاطر. فالذوبان بات يهدد الشعوب والسلالات القليلة.

هو سفر يشبه القصيدة، ولا بد من كلمات يتردد صداها بقوة الخيال، ويرسم شعرا ناطقا صامتا في مكان محدد

رحت أتأمل كلامه، وقد أضمرت رغبة في الكتابة بعد العودة، وهاجس كلمة الذوبان يبلغ أُفقا بنظرة عالمية للأدب إذا نبع من قمم الجبال، فكيفي مكنني أن أتناول هذا المرتفع بحواسه وصدقه وذاتيته كموضوع مذهل وممتع؟ وكيفأجمع بين التجربة المادية لهذه الرحلة، والتأمل في كيفية المساهمة في الكتابة؟ فلا شيء يثري حياة الناس في السفر الأدب يسوى الكلمة.

سفرٌ واقعي يشبه الخيال في منطقة فريدة من نوعها، وجمال رمادي في أقصى حالاته، ويستقبلنا المضيف الجبلي في بيته الحجري في تلك القمة، ومنظر الشروق الأخاذ يتجلى في صعود الشمس وإشراقها من بين تلال الجبال الشاهقة، وكم كان المشهد مختلفا، فلم يكن الشروق من البحر أو اليابسة، بل من قمة قريبة، بينما الغيوم تعبر النوافذ والأبواب والأجساد حيثما نسكن.

أردت الإمساك بالكتابة بتلك اللحظة، فالكلمة قادرة على ترويض كل شيء، أمام البصر وهذه الهندسة الفضائية. أردت أن أجمّد المشهد كما نوقفه بسهولة على شاشات الهاتف كل يوم، لكن هيهات، فلا الغيوم توقفت عن سيرها ولا الشمس كفت عن صعودها.

هو حوار داخلي يتلصّص على المكان والإنسان من خلال أدب الرحلات، أدب يناقش العقل البشري، أو ربما الخيال البشري. ففي سفري القصير هذا، من أجل منظر لا يقاوم، صعدتطريقا لا ينسى فوق أحجار تضج بالفوضى، هو سفر يشبه القصيدة، ولا بد من كلمات يتردد صداها بقوة الخيال، ويرسم شعرا ناطقا صامتا في مكان محدد، مكان يرسل رسالة مفتوحة إلى العالم كله، صارخابأنه الفرصة الوحيدة للإنصات لحقيقة الحياة بمكائدها وانتصاراتها وأحلامها، ولا للذوبان، بل صعودٌ وبروز.

font change