بعد كلّ المواقف والشعارات، الاتهامات والاتهامات المضادة، التحليلات والمراجعات، تأتي الجثث. غزة لم تصبح جثة بعد، لكنها حوّلت العالم إلى جثة. لكن، ماذا بعد جثّة؟ ماذا بعد تخيّل جثّة؟ فلتكن جثة طفل، أو بالغ، ولتتعدّد طرق الموت وبشاعاته. لكن ماذا بعد تخيّل جثّة؟ المخيلة تقف هنا، تتعطّل. لأن المخيلة لا تستطيع الانفكاك من الشعور. حين تصل المخيلة إلى جدار مسدود، فهذا يعني في الوقت نفسه ارتطام الحواس بهذا الجدار. أسمع صوت ارتطام ملايين الرؤوس، حول العالم، بهذا الجدار. وهو صوت مرعب. ليس صوت العجز فحسب، بل صوت موت المخيلة. أسئلة كثيرة عن العدالة والحقّ، الثواب والعقاب، الخير والشر. أسئلة لا تنتهي. أجل، القاتل معروف ودماء القتيل ساطعة حدّ الذهول، ومع ذلك تبقى الأسئلة بلا أجوبة. لماذا؟ كما في كلّ المذابح الكبرى، يظلّ السؤال بسيطا، لماذا هم؟ تتراكم الجثث وأنت تصنع قهوتك، تسمع أغنية، تجري محادثة هاتفية، تتناول طعام غذائك، تمارس الحبّ... باختصار تواصل الحياة، وكلّ تفصيل من تفاصيل حياتك، كل عمل تقوم به، يتزامن مع جثث جديدة. لا أعرف إن كان القتلى يشعرون بشيء ما قبل لحظة قتلهم، يسمعون صوتا ما، همسا ربما، كلمة تبث السكينة في أرواحهم قبل إقلاعها. لا أنفكّ أتخيّل تلك اللحظة. كم كان الموت ليكون وحشياً إن خلا حتى من لحظات كهذه. إن كنا في نهاية المطاف نقبع في عتمتنا، ثم ننتهي في ثانية واحدة. ننتهي فحسب.
أمشي في تلك الشوارع القديمة، في تلك المدينة البعيدة. شمس الشتاء تبعث دفئاً تتسرّب منه سعادة مؤلمة. أجل، بعد غزة، بعد المذبحة، كلّ شعور بالسعادة، صغر أم كبر، سيظلّ مترافقا مع شعور خفيّ بالذنب: لماذا أحظى بهذا وقد حرم منه كلّ هؤلاء؟ غزة المتخيلة تمشي معي. شمس الشتاء تتخللها حتى تصل إليّ. كم بشعة الحياة، حين تستمرّ، تستمرّ حقا، وقد انقطعت أسبابها.
محض مصادفات. حين كتب كالفينو "مدن غير مرئية"، كان، وهو المولود في أعقاب الحرب العالمية الأولى، 1923، في مثل عمري، وقد نشرت الرواية في عام مولدي (1972). مصادفات، لكنها قادرة في الوقت نفسه على أن تكون جزءا من نسيج حكايات الكتاب نفسه. مدن كالفينو غير مرئية، لا لأنها متخيّلة فحسب، بل لأنها موجودة. موجودة لكنها لا تُرى. تحتاج إلى ذاكرة لكي تراها، وتحتاج إلى لغة، وإلى شعر. مدن كهذه لا يعرفها غزاة، بمن فيهم قبلاي خان نفسه، ولا رحالة، بمن فيهم ماركو بولو. مدن كهذه تصبح سحرية لأنها أكثر من مرثية لمدن رحلت وحملت بين حجارتها أهلها. لأنها في حقيقة الأمر تعويذة، تعاود إنهاض المدن على قدميها. أفكّر في أولئك الغزاة الجدد. ليسوا قتلة فحسب، ولا مستعمرين فحسب، لكنهم مهووسون بمحو الأمكنة. تلك النشوة المرعبة على وجوههم وهم يسوّون بالأرض أحياء بأكملها. ذلك العداء تجاه الأمكنة يكاد يتوازى مع العداء تجاه أهلها. لقد أدرك هؤلاء الغزاة أن الأمكنة هي أهلها ولذلك يدمّرونها بهذه الشراسة. لم يشهد التاريخ قاتلا مهووسا إلى هذا الحدّ بقتل الذاكرة. ربما لأن الذاكرة هي أكثر ما يرعبه. بالتالي، يجب محوها، من الأمكنة، ومن الهواء، ومن رؤوس الناس وعقولهم. يجب قتل الذاكرة قبل كلّ شيء آخر.
أتذكّر حزن أمي على طبق من البورسلان تحطم يوما، بعد أن رافقها منذ بداية زواجها، وعبر جميع أفراح العائلة وأتراحها. لا بدّ أن ذلك الطبق كان يعني شيئا ما، شيئا عميقا وراسخا ونافذا يتجاوز وصفه وتعريفه الموضوعيين. إنه، أيضا، سجلّ للذاكرة. شاهد على القلب والروح. رفيق الأيام وهي تجري خلف الأيام. ولا أستطيع منع نفسي من التفكير: إذا كان المكان هو الشخص بكل ما فيه وكل ما يعنيه، والشخص هو المكان بكل ما فيه وكل ما يعنيه، إذا كان كلّ شخص يؤّسس مدينته المتخيّلة، داخل وبجوار المدينة التي يعيش فيها حقا، فكم غزة أبيدت اليوم في غزة؟ ثلاثون ألفا قتلوا حتى الآن. ثلاثون ألف غزة إذن. على الأقلّ.
أمشي في تلك الشوارع القديمة. أشعر أنني أتقدّم جنازة لها أول وليس لها آخر، خلفي مدن أخرى أبيدت. أعرف أنها ليست غزة فحسب، ولم تكن يوماً غزة فحسب. رام الله أيضا تُباد اليوم. القدس تُباد. حيفا ويافا أبيدتا. بيروت أبيدت، صيدا، صور، طرابس، دمشق، حماه، حلب، صنعاء، عدن، بغداد، البصرة إلخ. قافلة من المدن صارت جثثا تمشي ورائي. طبقات من المدن السرّية المتخيلة في السماء فوقي. وجوه جميع من رحلوا تتسرّب مع أشعة الشمس الشتوية الدافئة، تتراءى حزينة في الهواء السعيد.
أحاول أن أنام دون تخيّل شيء. تتدفق الذكريات كأنها لشخص آخر. كيف شختُ بهذه السرعة؟ كيف لم أعد أريد من الحياة شيئا؟ كيف ماتت شهوة الحياة في قلبي وفي روحي؟ أصلي لأرواح لا أعرفها. ترتعش الصلاة في قلبي، مثل كلّ صلاة تصبح، هي الأخرى، محض ذكرى وخيال.
اقرأ أيضا: قالت لي ابنتي
أحاول أن أتذكر مدن كالفينو السحرية. كيف ابتدع كلّ هذه الأسماء. كلما أعياني اليأس عدتُ إلى هذه المدن، أستمدّ منها شيئاً من اليقين ومن الطمأنينة ومن الثبات. أعرف أن كلّ المدن التي اغتيلت وأبيدت، والتي ستُغتال وتُباد، ستظلّ حية، لأن كاتباً، بل شاعراً، تخيّلها يوما، ومنحها حياة، وأعاد إليها الذاكرة التي حرمت منها.
إحدى مدن كالفينو، في رأسي، سيظلّ اسمها غزة.