"يوم جميل"، أقول لنفسي في الصباح. شمس كهذه، دأب كل شمس شتويّة صافية، تشبه أن ترى العالم للمرة الأولى. إشراقتها تكون في القلب، لا في العينين. السعادة أحيانا أن تمشي تحت هذه الشمس، في تلك الشوارع الأليفة القديمة، في محاذاة أشجار وأسوار تلوح منها آثار بواباتها العتيقة. العلاقة بالمكان، حين لا تكون سياحية، هي علاقة مبتدؤها القدمان. بعد ذلك تأتي العينان، ثم الأنف. لا أكاد أجد دوراً لليدين، عدا الإشارة أو مجرد أن تكون هناك.
أحاول – عبر تلك الآثار - تصفّح المكان، مثلما يتصفّح أحدهم عروق شجرة قديمة ولحاها، يقرأ سيرة حياتها وأطوارها، في تلك الخطوط. أحاول تمييز الطبقات، بين بيت عمره مئة عام، وآخر عائد إلى الستينات، وثالث إلى الثمانينات، ورابع لم يبق منه إلا بضع درجات حجرية يعلوها العشب البرّي. تلك أعمار الناس. ذلك التعاقب الدائم للأيام. شمس بعد شمس. جيل بعد جيل. كثيرا ما أرى رسم قلب محاط بالحرفين الأولين من اسمين، أو كلمة "أحبك" مكتوبة، بلغة هذه البلاد، على الجدران والأسوار، أحيانا يكون التاريخ مثبتا بجانب إعلان الحب هذا. لا أعرف لمَ يميل الناس إلى وضع التواريخ، ربما إدراكا منهم لمرور الزمن، ربما رغبة في تثبيت تلك اللحظة الفارقة، وإنقاذها من السيلان الدائم للزمن.
سائراً في تلك الأزقّة القديمة، أفكّر في مدن إيتالو كالفينو غير المرئية، المتخيّلة. أفكّر في غزة أيضا، وإن ليس بتراتبية واضحة. فغزة حاضرة دوما، نحملها بداهة في تفاصيل حياتنا اليومية، كأنها صخرة تذكرنا بأنّ ثمة شيئا فادحا، ناقصا، موجعا، راسخا، يأبى هذه المرة أن يغادر ليس لسبب سوى لأنّ الإبادة لا تغادر، ولأن أثر الفظائع لا يقلّ، إن لم يكن يتفاقم، بمرور الزمن. أتذكّر غزة أو أتذكّر أنني عاجز عن نسيانها. غزة التي تثير كلّ أنواع المشاعر، والأفكار، والمخاوف، والأحلام، غزة التي تُمحَق محقاً، التي تُباد أمكنتها، مثل بشرها، التي لم يعد ممكناً تمييز شوارعها القديمة، هي أيضا، بمعنى من المعاني، غزة متخيّلة. غزة المتخيلة هي غزة قبل دمارها. وهي غزة بعد دمارها.