لماذا يقال إن القمة تتسع للجميع؟
لأنها ببساطة كذلك، فحين نقترب من الجبل نجد أن قمته المسطحة تتسع لجميع الواصلين إليها.
كثير من مصائبنا البشرية نابع من التصنيف ووهم التفوق. لكنّ شواهد التاريخ تثبت أن مبارزة الأفراد والشعوب والدول حول وهم التفوق لا يؤدي إلا للضياع وهدر الطاقات. فحين صدق الألمان أن العرق الآري يتفوق على غيره دخل في في صراع غير مبرر لإزاحة غيره من الأجناس البشرية، وقد روج لهذه النظريات للأسف بعض المفكرين مثل البريطاني الألماني هيوستن ستيوارت تشامبرلين (1855-1927) لتدخل البشرية بسببها في ظلمات شملت كل مناحي الحياة وصدقها حتى المتعلمون والمثقفون.
وقد أدّت تصنيفات مثل النخبة مقابل العامة إلى ضياع الكثير من الحقائق وطبق ضمنيا من خلالها قانون الإزاحة مثلما عرفه العالم أرخميدس، فالإزاحة أو الانسحاب هي مقدار بُعد الجسم عن المرجع أي المكان الأصلي الذي كان فيه. هذا رياضيا وفيزيائيا، في حين أن الإزاحة الاجتماعية تعمل بالطريقة نفسها باستخدام سلم وظيفي أو اجتماعي أو تعليمي نتج عن وهم مجتمعي، بني على مركزية ونخبوية متوهمة واثباتات مثل الشهادة العلمية والتي بدلا من ان تزيح الفرد من ظلمات الجهالة إلى النور أصبحت معول هدم اجتماعي يتمحور حول إبراز التفوق الاجتماعي والمعرفي الذي يجعل 'صاحب الشهادة' يسير مختالا ومن لم يحصل عليها يقبع في الصمت.
أدّت تصنيفات مثل النخبة مقابل العامة إلى ضياع الكثير من الحقائق وطبق ضمنيا من خلالها قانون الإزاحة
إلا أن هناك أوساطا ثقافية عالمية انفتحت بعيدا عن نطاق التصنيف الضيق وانطلقت إلى رحابة الثقافة بمفهومها الشامل، لتعيد الجميع إلى مراكزهم الطبيعية. فتجد منظّرا جادا وباحثا عميقا في مسألة من مسائل العلم والحياة ويحمل في عقله من أدوات التحليل والاستدلال والتفسير والنقد وغيرها ما قد لا يملكه حملة الشهادات العليا.
ومن الأمثلة على ذلك، الشهادات الفخرية والتي يمكن لأشخاص غير جامعيين الحصول عليها. فهذه الشهادات ليست مقتصرة على الأفراد الذين حصلوا على درجات أكاديمية، بل يمكن منحها لأي شخص أو منظمة تقديرا لإنجازاتهم أو خدماتهم المتميزة في مجال معين. وفي الحقل الثقافي والأدبي هناك العديد من الكتاب عبر التاريخ الذين حققوا شهرة فكرية دون تعليم رسمي. بعض الأمثلة البارزة تشمل: مارك الكاتب الأميركي المعروف صاحب "مغامرات توم سوير" و"مغامرات هاكلبيري فين"، وجين أوستن الروائية الإنكليزية المشهورة بأعمال مثل "كبرياء وتحامل" و"العقل والعاطفة"، وليو تولستوي الكاتب الروسي المشهور بتحف روائية مثل "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، وتشارلز ديكنز صاحب الكلاسيكيات الخالدة مثل "توقعات عظيمة" و"قصة مدينتين"، وغيرهم من الكتاب الذين حققوا العظمة من خلال موهبتهم وتفانيهم والتزامهم بمهنتهم، على الرغم من عدم حصولهم على مؤهلات تعليمية رسمية في المجال الأدبي.
يساء إذن فهم الثقافة حين تغلف بغطاء من العنجهية الفكرية أو مجرد الحصول على شهادة تعليمية، فالثقافة حق مطلق لكل فرد وهي محيط معرفي ينهل منه كل عقل باحث جاد متعطش للمعرفة، لكن المؤسف أن يختال صاحب الشهادة بعلمه ولقبه العلمي فيتعالى على الجميع، ويعتبرهم دونه، ويعطي لنفسه الحق في الخوض في كل واد، بينما يزيح ذوي الأقلام الواعدة والمثقفين الباحثين عن معنى من خلال إنتاج فكري أو أدبي لا يقل أهمية عما يقدمه صاحب الشهادة، وربما يفوقها.
هذا الشعور المتوهم بالتفوق يمكن أن يؤدي إلى انعدام التنوع الفكري والإبداعي في المجتمع، وقد ينتج عنه تهميش الآراء والأصوات المختلفة
فهذا الشعور المتوهم بالتفوق يمكن أن يؤدي إلى انعدام التنوع الفكري والإبداعي في المجتمع، وقد ينتج عنه تهميش الآراء والأصوات المختلفة، مما يقلل من التنوع والتفاعل الثقافي الإيجابي. فإزاحة بعض الكتاب والاستهانة بتجاربهم الشخصية والثقافية، يؤديان إلى فقدان المعرفة والتجارب الثقافية الحية التي يمكن أن تثري المجتمع.
تنطلق الثقافة في حقيقتها من القاعدة الشعبية أو الجماهيرية، ولا يستطيع أي باحث العمل دون عبور هذه التجربة باعتباره ناقدا اجتماعيا، وهذا بحد ذاته يساوي كفة ذوي الشهادة العليا مع غيرهم من المثقفين الذين همهم أن يحددوا ويحللوا ويساهموا في إيجاد حلول للمعضلات الإنسانية من خلال جهدهم الفكري، والذين يجدون لهم مكانا في القمة دون إزاحة أو تهميش أحد.