"الأرض المحروقة" تحاصر أبناء جنوب لبنان على وقع حرب غزةhttps://www.majalla.com/node/310686/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%B1%D9%88%D9%82%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B5%D8%B1-%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D9%82%D8%B9-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
جنوب لبنان: لم يتمكن المواطن اللبناني علي سرور من قطف الزيتون، في الأرض التي يملكها في بلدة عيتا الشعب الحدودية من جنوب لبنان، بسبب كثافة القصف الاسرائيلي.
أصاب الشجرَ نوعان من الضرر: "في بستاني 80 نصبة زيتون، تدر لي في كل موسم نحو 7 تنكات زيت. لكنني لم أجرؤ على قطف الزيتون. إن لم تتضرر بالقصف، فستكون مسممة بقنابل الفوسفور. وهذه حال الجيران. فحين بدأ موسم القطاف، اشتعلت الحرب، وتركنا أرزاقنا خلفنا. لن نستطيع أن نحصي الأضرار إلى حين عودتنا، ولا نعرف متى".
وكان مختبر أدلة الأزمات في منظمة العفو الدولية قد نشر لقطات استهداف بلدة عيتا الشعب بالفوسفور الأبيض منذ بدايات الحرب في يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول.وتكشف الاستهدافات الاسرائيلية لجنوب لبنان استخداما سافرا للقنابل الفوسفورية، مُشكلة السلاح الأشد خطورة في الحرب، لأن تعافي التربة والمياه من أضرارها يتطلب سنوات طويلة.
انضمت إلى علي شقيقته في شقة استأجرها منذ ثلاثة أشهر في قرية كوثرية السياد التابعة لقضاء صيدا. تجهل العائلة مصير أرضها، لأن السكان ممنوعون من العودة إلى القرية، إلا إن انضموا إلى تشييع القتلى "حيث يصبح بإمكاني معاينة الأرض لأنها قريبة من المقبرة".
في الحرب يموت من يموت وينجو من ينجو. نحن مصائرنا معلقة، ولا نعلم من سيعوضنا عن خسائرنا ومتى
موسى توبة
يحاول علي تخفيف معاناته بمقارنتها مع معاناة الآخرين، "مئات المزارعين يعانون خسائر أفدح، وفي مقدمها التبغ. فقريتنا تعتمد على زراعة التبغ، إذ يعمل المزارعون على تخصيب المشاتل بين شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني، وهو ما لم يتمكنوا من فعله بسبب النزوح. وإن لم ينزحوا، فالجميع يحذرنا من التربة المسممة".
في المجهول
تشتد الظروف على المواطن موسى توبة، النازح من قرية عيترون، واصفا المنزل الذي يتشاركه مع 4 عائلات في بلدة الزرارية المتاخمة لصيدا بـ"منزل لم يعد قابلا للسكن".
مُني توبة بخسائر كبيرة في بستانه الذي يضم شجر الزيتون والخروب والتين على مساحة 5 دونمات، وألفي شتلة أفوكادو، بالإضافة إلى 15 دونما من القمح، وقفران النحل التي يجني منها العسل.
المجهول يحجب التوقعات، "منذ نزوحنا لم تطأ قدماي البلدة. ولا نزال اليوم لا نعرف هل هي حرب أم ليست حربا. في الحرب يموت من يموت وينجو من ينجو. نحن مصائرنا معلقة، ولا نعلم من سيعوضنا عن خسائرنا ومتى"، يضيف موسى بحرقة.
لا تزال الاعتداءات تتوغل، وتطاول سائر مساحات الجنوب اللبناني الذي يمنح نحو 37 في المئة من الإنتاج الزراعي المحلي، بفضل طوبوغرافيا المنطقة التي تُعدّ الأكثر تنوعا من بين المناطق الزراعية في لبنان: الشريط الساحلي الجنوبي الذي تمتد عبره أشجار الموز والحمضيات، يُعتبر آخر النماذج الزراعية الباقية على الساحل اللبناني. وفي الداخل نحو الحدود، تتركز زراعات التبغ والزيتون والتين، موزعة بين المرتفعات المعروفة بجبل عامل.
وإذ يُسلّم بأن الأوضاع في فلسطين تتشابك بشكل حاسم وديناميكي مع أحوال جنوب لبنان، وأنتجت رواية مركزية عن "أرض المقاومة"، تعيد الحرب الجارية الاعتبار إلى قيمة الأرض البيئية. والمسألتان، تتجادلان في "صناعة الانتماء"، الذي يستمده ابن الجنوب اللبناني من أرض توفر له رأسمالا ماديا ورمزيا.
مشهد الأضرار البيئية لا يتوقف عند عناصره المادية، فهو يستدعي المحمول العلائقي-الاجتماعي والرمزي-الثقافي الذي تجسده الأرض لأبناء الجنوب اللبناني.
الخسائر بالأرقام
تحصي المنصة الوطنية للإنذار المبكر التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلمية، 2447 اعتداء إسرائيليا على جنوب لبنان، منذ تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لغاية 1 يناير/كانون الثاني 2024. وخلال تلك المدة، حرق الجيش الاسرائيلي 800 هكتار من الأرض.
تتضمن المساحة المحترقة 24 هكتارا من شجر الزيتون بعدد 5 آلاف شجرة، بعضها يعود إلى أكثر من 150 عاما، إلى جانب 22,8 هكتارا من أشجار الموز والحمضيات، والضرر الأكبر لحق بـ343,9 هتكارا من السنديان المعمر. وتتنوع الأسلحة المستخدمة ما بين قذائف وغارات (2200)، وقنابل مضيئة حارقة (107)، وقنابل فوسفورية (73)، وقنابل فوسفورية بالإضافة إلى قذائف عادية (27).
ما يحدث في جنوب لبنان هو إبادة بيئية، يرتكبها العدوان الاسرائيلي لتحويل المنطقة إلى محيط حربي غير آمن لا للبشر ولا للزرع
تمارا الزين
"ما يحدث في جنوب لبنان هو إبادة بيئية، يرتكبها العدوان الاسرائيلي لتحويل المنطقة إلى محيط حربي غير آمن لا للبشر ولا للزرع"، تستنتج الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية، الدكتورة تمارا الزين.
تنتهج إسرائيل لهذه الغاية سياسة "الأرض المحروقة"، التي تعرّفها الفيديرالية الدولية لحقوق الإنسان بـ"إستراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها إحراق أي شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما".
وتضيف الزين لـ"المجلة" أن نسبة تركيز السموم في تربة الجنوب لا يمكن تحديدها في المرحلة الحالية، سواء لجهة تحديد نسبة تركز السموم أو لتطور وجودها في التربة. عوامل عدة تتدخل في عدم استقرار هذا التركز، وأهمها الأمطار.
... التربة والمياه والحيوان والطير
بدوره يشرح رئيس جمعية "الجنوبيون الخضر"، الدكتور هشام يونس، لـ"المجلة" أن "الفوسفور بعد إطلاقه، يبقى فعالا داخل التربة لمدة طويلة تبلغ أشهرا. وهو ما اختبرناه بالتجربة حين فحص زميلنا عينة من التربة بعد مرور 20 يوما على تعرضها للفوسفور، وكان أن خرجت الأدخنة من العينة لمجرد تحريكها واحتكاكها بالأوكسيجين، وأصيب زميلنا بالتسمم جراءها".
وبحسب الباحث، يلحق الفوسفور "أضرارا كبيرة بمكونات التربة، الميكروبات والعتائق من الأحياء الدقيقة التي تؤدي دورا حيويا في عمليات تدوير المغذيات في التربة مثل تثبيت النيتروجين Nitrogen fixation وتمعدن الفوسفور العضوي Phosphorus mineralization، وبالتالي فإن تسمم التربة بفعل الفوسفور يؤدي إلى تعطيل عملية تدوير المغذيات، مما يقلل خصوبة وجودة التربة. لذلك فإن النسب العالية لتركز الأسيد الفوسفوري تعني تقويض نظام التربة في الجنوب اللبناني وتسميم عناصره. ويتطلب الأمر مدة طويلة لاستعادة التربة حيويتها إلى ما كانت عليه قبل هذه الهجمات".
ويسند ملاحظته إلى ثلاثة عوامل معتمدة في الاعتداءات الاسرائيلية الأخيرة "كثافة غير مسبوقة باستخدام الفوسفور الأبيض، وتكرر الاستهداف على النطاق الواحد واستمراره لفترة زمنية طويلة، وهو ما يحقق الإبادة البيئية. ولقد تقصدت إسرائيل ضرب الموائل والأنظمة البيئية في جنوب لبنان منذ بداية الحرب، فمنذ 8 إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شمل القصف بالفوسفور كل المناطق الحدودية وتتجاوز مساحتها 100 كيلومتر مربع"، مشيرا على سبيل المثل إلى "منطقة اللبونة الحرجية التي تعرضت للقصف الفوسفوري على مدى 4 أشهر، والغاية تقويض النظام البيئي وفرصة إعادة نمو الأشجار أو جعلها شديدة الصعوبة".
النسب العالية لتركز الأسيد الفوسفوري تعني تقويض نظام التربة في الجنوب اللبناني وتسميم عناصره
هشام يونس
بالمقارنة مع الحروب الأخيرة، "تتجاوز مدة الاستهداف الحالي أضعاف المدة الزمنية لحرب تموز/يوليو، علما أن تلك الحرب تسببت بأضرار جسيمة ولكن طبيعتها مختلفة، لأن الاستهدافات كانت تعتمد أنواعا عدة من القنابل، بشكل رئيس العنقودية، وكذلك المخصبة باليورانيوم والفوسفوري بدرجة أقل، تجاوز عددها 4 ملايين قنبلة عنقودية منها مليون قنبلة لم تنفجر، وغطت مساحة تتجاوز 15 كيلومترا مربعا وشملت أكثر من 150 قرية".
بالاضافة إلى تضرر الغطاء النباتي، الذي يكسو الأحراج والأراضي الزراعية، يذكّر يونس بإمكان تسرب الفوسفور إلى خزانات المياه الجوفية، وأيضا بأخطار تلوث المياه السطحية التي تجري إلى الأنهر والجداول الموسمية أو تتجمع في مستنقعات وأحواض مائية صخرية تلجأ إليها للشرب أنواع لا حصر لها من الحيوانات والطيور، فضلا عن الضرر الذي تلحقه بالنظم المائية وكائناتها. فهذه المساحات تشكل موطنا لحيوانات وطيور ومنها ما هو نادر ومعرض لخطر الإنقراض، وتشكل أحد عناصر استدامة التنوع البيولوجي لكامل المحيط، "لا نملك حاليا التقديرات إلى أي حد هذه الحملة الفوسفورية قضت على الحيوانات، ولكن ما نستطيع تأكيده أنها طاولت أنواعا عدة من المفترسات النشطة والثدييات والطيور المقيمة والمهاجرة".
تشمل الخسائر الحيوانية "أنواعا مختلفة من الثدييات بما فيها الثعالب الحمراء والغرير الأوراسي وغزال الجبل الذي اختفى من لبنان في سبعينات القرن الماضي وعاد إليه جوالا بين الحدود الجنوبية وشمال فلسطين. وهناك الطبسون الذي وثقناه ضمن مستعمرات عدة وينتشر بشكل خاص في منطقة الناقورة، وابن آوى الذهبي الذي يعد من الحيوانات اللاحمة المفترسة الأساسية في المنطقة وينشط في المنطقة بما فيها أحراج عيتا الشعب، فضلا عن أنواع من القوارض والزواحف والحشرات. وتأوي معظم هذه الحيوانات إلى أنفاق تعرضت للفوسفور الأبيض، فقتلت إما بالاختناق وإما ذاب لحمها حتى وصل الفوسفور إلى العظام".
ويضيف يونس أن المقتلة لحقت أيضا بالطيور المهاجرة "التي تزامن موسم هجرتها الموسمية مع اندلاع الحرب، وكانت تعبر المناطق التي تعرضت للاستهداف. وعادة ما تسلك هذه الطيور خط لبنان- فلسطين- مصر وصولا إلى وسط أفريقيا. والمتوقع أن الفوسفور طاول هذه الطيور المهاجرة ضمن مجالين، في الهواء الذي استنشقته وفي المياه التي شربتها حين غطت لتستريح".
منبت للهوية
في المرحلة الراهنة إذن وعبر كل الأزمنة، لا تزال الأرض هي المحور والمحيط والحدث والعنصر المقرر لدى معظم أبناء الجنوب اللبناني. تنضبط حياتهم على مواعيد ري التربة، وقطاف الزيتون، وذر حبوب القمح، واشتعال الحلل تحت أكواز الرمان... والحرب.
الحرب الأخيرة تضع على المحك تناقضات ما تشكله أرض الجنوب من مصدر أمان وتهديد في آن واحد. فهي الحيز المكاني الذي يوفر السكن والزرع والرزق، مثلما هي أرض الحرب والأرض المخترقة بأسباب الموت. أرض الجنوب اللبناني هيبالتالي بيئة عاطفية وجسدية بمعنى جيوبويتيكس Geopoetics، تنتج الهوية والكيانية والوجود.
الباحث في علم الاجتماع، الدكتور سعيد نجدي، يحلل لـ"المجلة" علاقة أهالي جنوب لبنان بالأرض، مبتدئا بالمشهد الجغرافي اللبناني: "قد يكون لبنان في الأصل مجموعة من المجتمعات الزراعية التي فرضتها طبيعته الجبلية المتمركزة في جبل لبنان والشمال والجنوب. إلا أن الأخير لا يزال يستديم ويعزز وجوده من مسألة الأرض".
نجد الجنوبيين متمثلين تارة بنموذج القومية العربية، وطورا باليسار الذي تركز ثقله اللبناني في الجنوب، ومع صعود الاسلام السياسي التحقت مقاومتهم بإيران
سعيد نجدي
وبحسب الباحث، ينطوي عمق المسألة على "متانة الارتباط التاريخي بجبل عامل وتقاطعه مع تشكل الدولة الحديثة في لبنان. وهذا ما يحيلنا على علاقة أهالي الجنوب بالدولة اللبنانية. فمنذ نشأة المجتمع الجنوبي يتنازع انتماؤه تحديد تبعية جبل عامل، وما إذا كان سيستقر في سوريا أو لبنان أو يكون تابعا لولاية عكا. أضيف أن الجنوب كان بوابة جبل عامل التجارية نحو فلسطين. والموقع الجغرافي له تأثيره، ففي جنوب هذه الأرض توجد فلسطين المحتلة، وعبر الداخل اللبناني تنتشر الكانتونات الطائفية".
هذا ما ينقل نجدي إلى الحديث عن عامل موضوعي خاص بتكوين لبنان، الذي ركز السلطة والإنماء في بيروت وجبل لبنان، ومنح أحزابا عقائدية مكانة الوساطة بين اللبناني وحقوقه المكتسبة.
مجموع هذه العوامل، في رأيه، "هيأ عدم استقرار العلاقة بين أهالي الجنوب وكيان لبنان، وهشاشتها، فتكرس انتماؤهم إلى أرضهم بشكل انحيازي ومستقل، على نسق ليس لابن الجنوب سوى أرضه، وأنشأ لأجلها مقاومات ضد احتلال الأرض وانتهاكها".
يتدارك نجدي أن "المقاومة" في الجنوب لم تؤرخ لحقبة معينة أو اعتنقها فريق محدد، فهي قبل كل شيء تستبطن البنية اللاوعية لابن الجنوب، في سعيه المستمر للبحث عن هوية رديفة من خلال تبنيه نماذج من الأيديولوجيات والأفكار من خارج حدود لبنان. فنجد الجنوبيين متمثلين تارة بنموذج القومية العربية، وطورا باليسار الذي تركز ثقله اللبناني في الجنوب، ومع صعود الاسلام السياسي التحقت مقاومتهم بإيران.
ويرى أن أزمة الانتماء والعلاقة بالأرض-الوطن لا تستثني أي جماعة في لبنان، لأنه "بلد قائم على عصبيات مذهبية مقسمة بحسب المناطق. ولبنان اليوم دولة مفككة، لن يجد فيها المواطن الجنوبي- مثل كل اللبنانيين- مجالا حاضنا لاستمراره سوى ضمن انتمائه الطائفي-المناطقي".
يتوقع نجدي عودة أبناء الجنوب إلى قراهم حتى من دون تعويضات أو مخطط حكومي، مستعيدين هذا الخيار على غرار ما يفعلونه بعد كل حرب. وهذا ما سيحفز تجذرا أعمق لابن الجنوب في أرضه، في مقابل غياب "الدولة المتماسكة" واستتباب التخلي. ويسبق هذا التخلي جهوزية كامنة في لبنان لتفجر العلاقة بين المواطنين والدولة، على شكل أنواع الهيمنة لكل طائفة في كل فترة.