بناء على ذلك ثمة ملاحظتان. الأولى، أن "فتح" حافظت على المبادئ الأساسية المذكورة، بتضمينهـا في الوثـائـق الصـادرة عن مؤتمـرات "فتح" الخمسة الأولى، وضمنها الرابع (1980) والخامس (1988)، رغـم أن تلك الأفـكـار تم التـراجـع عنـها في الوثـائق الرسـمية الصـادرة عن "منظمـة التحرير الفلسطينية"، التي تقودها "فتح"، بزعامة ياسر عـرفـات، والتي باتت تتـبنـى، منـذ الـدورة الـ12 لـ"المجلس الوطني الفلسطيني"، و"البرنامج المرحلي" (1974)، المتضمن إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين (1967)، في تحول من هدف التحرير إلى هدف إقامة سلطة أو دولة في أي جزء يجري تحريره، ثم تم اختزال ذلك بحق تقرير المصير والعودة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية، علما أن التركيز، عمليا، على إقامة دولة في الضفة والقطاع.
ولعل ذلك يكشف روح المناورة عند القيادة الفلسطينية، وعدم مبالاتها بالإنشاءات مقابل تركيزها على السياسات العملية، وتمييزها بين الشعارات والخيارات. وهذه واحدة من أهم سمات عمل القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح" في آن واحد). والمعنى أن قيادة "فتح" ظلت تتعمد التورية، والحديث بلغة مزدوجة، حتى ذلك التاريخ، بل إن مقررات المؤتمر السادس الذي عقد في بيت لحم (2009)، بعد إقامة السلطة (1994)، وبعد رحيل ياسر عرفات (2004)، تضمنت انتهاج "فتح" لكل أشكال النضال وضمنها الكفاح المسلح! وبديهي أن هذا مجرد كلام إنشائي، الغرض منه ترضية قواعد الحركة وجمهورها، لا سيما مع واقع التنسيق الأمني مع إسرائيل، بحسب "اتفاقات أوسلو".
الملاحظة الثانية، مفادها أنه إذا كان المؤتمر العام الرابع لـ"فتح" (1980)، لم يمرر في مقرراته "البرنامج المرحلي"، الذي بات معمولا به، منذ عام 1974، في منظمة التحرير، التي تهيمن عليها "فتح"، بتأكيدها أنها "حركة وطنية ثورية هدفها تحرير فلسطين... وتصفية الكيان الصهيوني... وإقامة دولة ديمقراطية... تحفظ لجميع المواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز"، فإن قيادة هذه الحركة تحايلت على ذلك، بتمريره في المؤتمر الخامس (1988)، الذي عقد في تونس، بعد الخروج من لبنان، وانتهاء ظاهرة المقاومة المسلحة من الخارج، وفي مناخات الانتفاضة الأولى بعد أن كانت مررته في المنظمة كما ذكرنا. بيد أن هذا المؤتمر لم يصل إلى حد إزاحة المبادئ الأولية للحركة، إذ إن لغة الخطاب ظلت مزدوجة، حيث تم صوغها بطريقة لا تقطع مع المبادئ من جهة، وتوصل أو تمرر الجديد أو الدخيل على الفكر السياسي لهذه الحركة.
وفي الحقيقة، فإن إزاحة تلك المبادئ، أو النكوص عنها، تحقق في المؤتمرين السادس والسابع، بعد إخفاق الانتفاضة الثانية (2000-2005)، ورحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الذي صاغ "فتح" على طريقته، وحافظ على ازدواجية خطابها، وفق فهمه لدوره النضالي ومكانته الشعبية ورمزيته التاريخية، وانتهاء الازدواجية الوطنية في عهد الرئيس محمود عباس. وقد سهل هذا النكوص، في حينه، ارتهان القيادة الفلسطينية لخيار السلطة والمفاوضات، وعدم اعتمادها خيارات أخرى، وظهور منافس لـ"فتح" على القيادة هي "حماس"، ووجود طبقة سياسية، باتت متقادمة، ومستهلكة، ومعنية باستمرار الوضع الراهن، ولو بثمن التخلي عن الفكرة الوطنية التي مثلتها "فتح".
ومثلا، فقد تمخض المؤتمر السادس لـ"فتح"، الذي عقد في ظل السلطة، في الأراضي المحتلة (بيت لحم 2009)، عن إزاحة المبادئ المذكورة من الوثائق الصادرة عن المؤتمر، بعد 13 عاما على تعديل "الميثاق الوطني" (بقرار من "المجلس الوطني"، غزة 1996)، و16 عاما على توقيع "اتفاق أوسلو" (1993)، وعقدين على تبني برنامج "الحرية والاستقلال" (الجزائر 1988)، و35 عاما على إقرار "البرنامج المرحلي".
الآن، باتت حركة "فتح" من خلال قيادتها للسلطة والمنظمة أكثر جرأة على تخطي أفكارها الأولية المؤسسة، وزعزعة الفكرة الوطنية الجامعة، التي تطابق بين الشعب والأرض والقضية، باختزالها كل المسألة في إقامة دولة لجزء من الشعب في جزء من الأرض مع جزء من الحقوق، وبتفكيكها مفهوم وحدة القضية، ووحدة الشعب، كنوع من تقدمة، بوهم إمكان قبول إسرائيل إقامة كيان فلسطيني في 22 في المئة من أرض فلسطين، بل واعتبار الصراع بأنه مع إسرائيل التي تحتل أراضي الدولة الفلسطينية، وأن المسألة تتعلق باستقلال تلك الدولة وارتقاء عضويتها في الأمم المتحدة من عضو مراقب إلى عضوية كاملة وهي فقرة باتت تتكرر كلازمة في مقررات المجالس الوطنية والمركزية الفلسطينية.
وفي المقابل، فإن إسرائيل لم تتوقف يوما عن التعامل مع قضية فلسطين، وشعب فلسطين، إلا كوحدة متكاملة، رغم انتهاجها سياسات مختلفة إزاء كل جزء، بواقع حرب الإبادة التي تشنها على غزة، وموازاتها التي تشنها بطرق أخرى في الضفة والقدس، وضد فلسطينيي 48، لإخضاع الشعب الفلسطيني كله، من النهر إلى البحر، وتغييبه أو ترحيله. يأتي ضمن ذلك الحط من مكانة السلطة الفلسطينية، التي تنسق معها أمنيا وإداريا واقتصاديا.