إيران وأميركا وبينهما لبنان وسوريا والعراقhttps://www.majalla.com/node/310666/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D9%88%D8%A8%D9%8A%D9%86%D9%87%D9%85%D8%A7-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
تعيش المنطقة على وقع المراوحة بين احتمالات التصعيد، وتحديدا في رفح وعلى الحدود بين لبنان وإسرائيل، وبين توقعات التوصل إلى هدنة "طويلة" بين "حماس" وإسرائيل. لكن ومع دخول الحرب شهرها الرابع بات جليا أن إحدى السمات الرئيسة التي تتسم بها هي أنه لا يمكن التعامل مع أي تطور مؤقت في سياقها بمعزل عن نتائجها على المديين المتوسط والبعيد.
وهذا ما أشار إليه باكرا جدا الربط الأميركي بين مسارين متوازنين، هما دعم إسرائيل في حربها على "حماس"، والإصرار على تل أبيب للبحث في "اليوم التالي" للحرب. بمعنى أن مقاربة واشنطن للحرب وإن كانت تنطلق من ضرورة تحقيق إسرائيل إنجازات عسكرية وأمنية بينة فإنها تتطلع أيضا إلى تثمير هذه الإنجازات، حال تحقيقها، في إطار استراتيجيتها للمنطقة.
هذه المعادلة الأميركية المركبة كانت ولا تزال أساسية في قراءة المجريات العسكرية والسياسية للحرب لناحية ما يمكن لواشنطن القبول به أو عدم القبول به في لائحة الأولويات والسياسات الإسرائيلية، وإن كانت تريد انتصارا إسرائيليا في الحرب. أي إنها لا تختلف مع تل أبيب على الأهداف التي وضعتها الأخيرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وفي مقدمتها القضاء على "حماس"، لكن تحقيق هذا الأمر ليس الهدف الأميركي النهائي من الحرب إذا كانت ستترتب عليه أضرار على استراتيجية واشنطن في المنطقة.
وفي المقابل فإنه وبمثل ما يفترض قراءة الرؤية الأميركية للحرب وما بعدها، يفترض قراءة سلوك خصوم واشنطن فيها وبالتحديد إيران على قاعدة أنها تتصرف في هذه الحرب بناء على مراعاة الخطوط الحمراء الأميركية لكي لا تدخل في صدام مباشر معها يهدد على نحو جدي مستقبل نظامها.
تجدر الإشارة هنا إلى أن فهم السلوك الإيراني خلال هذه الحرب يحتم الابتعاد كليا عن نظرية المؤامرة كما لو أن هناك تواطؤا أميركيا– إيرانيا في المنطقة، إذ إن هناك فرقا بين أن يكون مثل هذا التواطؤ قائما بينهما وأن يكون البلدان قد تقاطعا، كل بحسب مصالحه، على عدم الرغبة في تحول الحرب في قطاع غزة إلى حرب إقليمية شاملة. وهذا التقاطع لا يؤدي بالضرورة إلى أن يكون الطرفان متعادلين في ميزان الربح والخسارة، بل إن كلا منهما يسعى لأن يسجل نقاطا ضدّ الآخر تحت سقف هذا التقاطع، أي إلى الحد الذي لا يعود ممكنا معه تجنب الدخول في مواجهة مباشرة.
إلا أن هناك فارقا أساسيا بين واشنطن وطهران، فالأخيرة وبحكم التفاوت في القدرات العسكرية بينها وبين واشنطن، تكثّف من مناورتها السياسية لتعويض محدودية قوتها والتي ظهرت بوضوح خلال الحرب من خلال احتساب خطواتها بدقة بالغة بحيث لا تقع في خطأ يستدعي ردا أميركيا على أراضيها. أي إن طهران تستثمر في عدم رغبة واشنطن توسيع الصراع للتحايل على واقع أنها مردوعة فعلا من قبل أميركا منذ لحظة إبحار بوارجها إلى المنطقة.
صحيح أن إيران خاضت "حرب ظل" مع أميركا عبر وكلائها في طول المنطقة وعرضها، لكنها في الوقت نفسه اعتمدت استراتيجية سياسية وإعلامية بخطين متوازيين: التبرؤ من هجمات وكلائها، وفي الوقت نفسه تأييدهم وتأكيد دعمها العسكري والسياسي لهم. ولا ريب أن هذه الاستراتيجية الإيرانية نجحت حتى الآن في تجنيب إيران الانجرار إلى مواجهة خاسرة مع أميركا، من دون أن تظهرها متخلية تماما عن وكلائها سواء "حماس" التي تخوض قتالا مباشرا مع إسرائيل، أو سائر الميليشيات الموالية لإيران والتي "تساند" غزة وعلى رأسها "حزب الله" الذي يخوض مواجهات "عالية المخاطر" مع الجيش الإسرائيلي.
التصعيد الإسرائيلي في المواجهة مع "حزب الله" يدفع إلى عدم الإفراط في توقع تهدئة مزدوجة ومتينة في جبهتي غزة وجنوب لبنان
واللافت في هذا السياق أن الآونة الأخيرة شهدت تراجعا في هجمات الفصائل الموالية لإيران في كل من سوريا والعراق ضدّ المصالح الأميركية والمواقع الإسرائيلية، بعد الرد العسكري الأميركي على قصف "البرج 22" على الحدود الأردنية من خلال قصف مواقع لهذه الفصائل في كلا البلدين. وهنا لا يجب فهم التراجع في حركة تلك الفصائل من باب قوة الردع الذي حققته الضربات الأميركية تلك وحسب، بل أيضا من باب خشية طهران من أن يؤدي استمرار هجمات الفصائل الموالية لها إلى تجاوز خطوط حمراء أميركية تدفع واشنطن إلى التصعيد ضدّ إيران مباشرة وليس ضد فصائلها وحسب. وهو ما دلّت عليه التساؤلات بشأن مدى سيطرة طهران على قرارات وكلائها ومدى تحكمها في مستوى هجماتهم بحيث لا تخرج عن السقف "الآمن" والمسموح به.
لكن بغض النظر عن هذه التساؤلات المفتوحة، فإن هذا التطور في موقف تلك الفصائل جدير بالتوقف عنده لفهم سلوك إيران الإجمالي في هذه الحرب، وإن كان لا يمكن اعتبار تراجع هجمات الفصائل تلك نهائيا لا رجعة فيه. إذ من الممكن جدا أن يكون بمثابة خطوة إلى الوراء أقدمت عليها طهران لتنفيس الاحتقان مع واشنطن وإعادة ضبط الصراع المتأرجح ضمن سقوف محددة، لتعود بعدها إلى حث الفصائل الموالية لها على تكثيف هجماتها تبعا لتطورات ميدان الحرب في غزة وعلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية وتبعا أيضا لمسار المفاوضات السياسية للتوصل إلى اتفاق هدنة بين "حماس" وإسرائيل.
وفي هذا السياق يمكن إدراج كلام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان خلال زيارته إلى بيروت والذي بشّر فيه بقرب الحل السياسي في المنطقة، في باب المناورة السياسية الإيرانية بالتوازي مع المناورة الميدانية المتصلة بتراجع هجمات الفصائل الموالية في سوريا والعراق والبحر الأحمر. بمعنى أن كلام عبد اللهيان في بيروت قد يكون هو أيضا خطوة إيرانية إلى الوراء، لكن سياسيا هذه المرة، ترقبا لتطورات المرحلة المقبلة وتحسينا لشروط التفاوض مع واشنطن، وإلا فاسترجاع وتيرة التصعيد، في حال تأخر اتفاق التهدئة المنتظر من القاهرة على وقع الشروط المتبادلة بين "حماس" وإسرائيل، وبالأخص في ضوء التساؤلات التي يطرحها تهويل الحكومة الإسرائيلية بالهجوم على رفح لناحية ما إذا كان في سياق الضغط على "حماس" لدفعها إلى التنازل في المفاوضات، أو أن بنيامين نتنياهو يريد فعلا دفع الجيش الإسرائيلي إلى تنفيذ هذا الهجوم مدفوعا بالضغوط السياسية التي يواجهها في الداخل الإسرائيلي، وبتناقضاته مع الإدارة الأميركية التي تلقى تأييدا لدى الجمهور الإسرائيلي، وقد عاد أخيرا إلى الحديث عن السيطرة الأمنية على قطاع غزة في نسف لخطط "اليوم التالي" الأميركية. لكن الأهم هنا أن كلام نتنياهو يزيد من الضباب الذي يلف مشهد الحرب وما بعدها باعتبار أنه يضيء على حقائق الاستراتيجية اليمينية الإسرائيلية التي ترفض الحل السياسي وتخطط لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ومنع إقامة دولة فلسطينية.
غير أن التطورات المحتملة في رفح لا تختصر لوحدها المشهد العسكري والسياسي في المرحلة المقبلة، إذ إن التصعيد الإسرائيلي في المواجهة مع "حزب الله" يدفع هو الآخر إلى عدم الإفراط في توقع تهدئة مزدوجة ومتينة في جبهتي غزة وجنوب لبنان. أي إن التوصل إلى تهدئة في قطاع غزة لا يعني انسحابها إلى جنوب لبنان كما حصل في المرة السابقة في ضوء الكلام الإسرائيلي المتكرر عن ضرورة خلق "واقع جديد" على الحدود مع لبنان إن لم يكن بالسياسة فبالوسائل العسكرية. ويبدو أن المسارين هذين متداخلان في الاستراتيجية الإسرائيلية للتعامل مع تهديد "حزب الله".
عودة الحديث عن "حل الدولتين" إلى الواجهة يتزامن مع انكشاف أكبر وسقوط أعمق للدولة في العراق ولبنان وسوريا
هذه التعقيدات والحسابات المختلفة لأطراف الحرب تؤكد أن المنطقة دخلت في نفق طويل يصعب من الآن توقع نهاية له أو العثور على بقعة ضوء ولو شاحب في آخره، خصوصا أن الأسئلة حول مستقبل الحرب تترافق مع أسئلة أكبر حول مستقبل المنطقة بعد الحرب، في ظل صراع النفوذ المحتدم من بغداد إلى بيروت مرورا بدمشق ووصولا إلى صنعاء. وهو صراع لن يتوقف حتى بعد انتهاء الحرب الحالية بل سيأخذ أشكالا أخرى. فإذا كانت أولوية إسرائيل الآن هي ترميم مرتكزات ردعها والخروج من دائرة "التهديد الوجودي" الذي أصبح مفتعلا باعتراف الرئيس الأميركي نفسه الذي قال إن الرد الإسرائيلي على هجوم "حماس" تجاوز الحد، فإن أولوية إيران هي الحفاظ على مكتسباتها في المنطقة بأسرها بعد انفلاشها الكبير فيها وصولا إلى البحر المتوسط. وهو انفلاش لا يمكن توقع أن طهران مستعدة لتقليصه، وهذا ما ظهر من زيارة عبد اللهيان الأخيرة إلى دمشق حيث كرر تصميم بلاده على تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية مع سوريا والتي تشكل مدخلا أكيدا إلى سيطرة طويلة الأمد لإيران فيها، وهذا فضلا عن السيطرة المطلقة لـ"حزب الله" على لبنان إلا من بعض الاستثناءات الشكلية.
الأمر نفسه ينطبق على حلفاء إيران في العراق، لكن مع الأخذ في الاعتبار أن طهران غير مستعدة للاصطدام المطلق مع واشنطن في بيروت وبغداد، وذلك لكي لا يتواصل اصطدام نفوذها الأمني والسياسي فيهما بالعوائق الاقتصادية التي تضعها واشنطن أمامه. وفي ظل عض الأصابع بين البلدين، يدفع الشعبان اللبناني والعراقي أثمانا باهظة وكارثية، وبجوارهما يغرق الشعب السوري في مأساته اللامتناهية، والمفارقة أن عودة الحديث عن "حل الدولتين" إلى الواجهة، يتزامن مع انكشاف أكبر وسقوط أعمق للدولة في العراق ولبنان وسوريا أمام صراع النفوذ والتدخلات الإيرانية المفضوحة والاستفزازية، أليس "أمن لبنان من أمن إيران"، كما قال عبد اللهيان من بيروت؟!