أبرز الكتب الفكرية والفلسفية التي ناقشت الحبّhttps://www.majalla.com/node/310661/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B4%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8%D9%91
قد يكون القرن العشرون من أكثر الأزمنة التي كُرّس فيها الحب، في القصة والرواية والسينما والدراما، كتصور مثالي أو كشرط من شروط السعادة. كل شيء صار يدور حول الحب ليكون جذابا وممتعا ووجدانيا، فيشير إدغار موران إلى أن القرن العشرين كان قرن خلق المحبوب وجعل الحب مرافقا لأي فعل بشري وبطولة درامية أو فنية أو اجتماعية ومقياسا لنجاح أي مُنتج. حتى الإعلانات صورت الحب وجعلته جزءا جذابا لسلعها. وأصبح الحب بديلا من كل شيء آخر قِيَمي أو أخلاقي كفلسفة للحياة والصراع فيها، وأيضا الحب كتقنية للتسويق والتجارة والتسليع.
في كل عام يحاول العالم تبرير مخاوفه وإحياء المحبة والحضور المحب، وإظهار الحب في هيئة يوم احتفالي بين المحبوبين، ويكتسي الأحمر واجهة قنوات التلفزيون، وتعتني الشوارع بهذا اليوم فتصطبغ باللون الأحمر.
تقاسمت الرواية والشعر والأغنية أبعاد الرومانسية العربية في وجهها العام، تلك التي طغت مع المدارس الشعرية التي تطورت في الربع الثاني من القرن العشرين، ونزعت نحو التعبير العاطفي والذاتي دون قيود الخجل. وهو ما انتقل إلى الغناء، وكثيرا ما ارتبطت نشوة الحب عربيا بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وصباح. ولعلّ قصيدة "الأطلال" لإبراهيم ناجي، التي احتفت بها مدرسة "أبولو" الشعرية، وغنتها أم كلثوم هي جوهرة التاج للرومانسية الشعرية العربية نحو المرأة والمحبوب والذات الحالمة والمتألمة، ثم جاءتالدراما العاطفية الغنائية التي برز فيها التعاون بين نزار قباني وعدد من المطربين، أبرزهم عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة.
كان صادق جلال العظم جريئا في طرحه الفرويدي الذي حمل أبعادا جنسية شهوانية للحب، وليس الحب بوصفه صانعا للوجدان والتلاقي
في عصر التفكير الفلسفي عند اليونان، كان الحب هو لغة التوق نحو الآلهة. ففي كتاب "المأدبة" لأفلاطون نرى إيروس الإله العاشق الساعي نحو المحبوب، ثم كيف يكون الحب هو التوق نحو الإله والخير. حتى الآداب الطويلة الكلاسيكية وضعت في بنيان منطقها دلالة العاطفة، بدءا من تلاصق الذرات وتغير الطبيعة جراء محبة الذرات بعضها لبعض عند المدرسة الإيلية اليونانية، مرورا بأفلاطون وأرسطو اللذين جعلا الحب توقا نحو الله، ثم عند أرسطو حيث العاطفة هي التي دفعت الحركة الأولى، وحيث أن محبتنا لله هي التي تولد لدى البشر الاستجابة العاطفية.
يخلق الحب توترا دائما في حياة البشر دون شك، وكل هذا يصنع حوله الشغف والتشويق نحو الارتواء منه. تعبير "فيلم رومانسي" أو "رواية رومانسية"، من أكثر التعبيرات التي يمكن سماعها لدى الفئات العمرية المتوسطة والشابة، وكثيرا ما تؤسس مرويات الحب الصدى العاطفي والوجداني في حياة البشر الذين يحاولون العيش مع أبطالها أو الاقتداء بهم.
وقد شهد الأدب العربي نشاطا متصلا يدور في فلك الرومانسية، إلا أنه ومنذ ثمانينات القرن الماضي بدأت كتب اختصاصية تظهر، لا يكون فيها الحب إلا موضع دراسة وتفحص، وموضعا للفهم ومحاولة تدارك معالمه وفهم أبعاده، ولا يخلو التراث العربي من هذا الميل الى التخصص وتفحص الحب، لكن الكتب الحديثة كانت أجرأ في طرحها، غائصة في علاقات الحب والمحب وآلية الحب أكثر من كل وقت مضى. فالحبّ لم يعد قيمة عليا فحسب، بل أصبح جزءا من العيش اليومي، ينطوي على ألغاز وأسرار و"تقنيات" تحتاج إلى شرح وتعليل.
صادق جلال العظم... الحبّ والحبّ العذري
"نحن نعرف أن العلاقات الغرامية التي تنزع نحو الاستمرار والبقاء تفقد عنفها وزخمها بمرور الزمن والأيام لتتحول إلى صِلات من نوع آخر تتصف بالثبات والاستقرار والإلفة بين الفريقين المتحابين وتبتعد عن كل ما يمت بصلة إلى الانفعال الحاد…"، يقول المفكر صادق جلال العظيم في كتابه "الحب والحب العذري" الذي كان جريئا في طرحه الفرويدي الذي حمل أبعادا جنسية شهوانية للحب، وليس الحب بوصفه صانعا للوجدان والتلاقي، وبناء نسيج دافئ لعلاقات الناس وتشكيل العلاقة مع المحبوب. لكن الكتاب لا يقف عند تبنّي وجهة نظر الفرويدية، فيضع فارقا مركزيا لوصف الحب وتفكيك معالمه في النفس الإنسانية، مُبعدا إياه عن الشهوة والاشتهاء الجنسي اللذين ليسا سوى إجراء كيميائي وفيزيائي بسيط، يفضي بعد تلبيته إلى انتفاء الحب بوصفه مشاعر ثابتة وإحساسا متزنا ودافعا للذة. المفارقة التي يضعها صادق هي الجانب الثقافي والسلوكي للمحبين، بناء على الزمن والشدة، ويحلل الزمن الطويل لانتظار المحبوب ومراحل القوة والاشتداد في كل لحظة ومرحلة عاطفية، ويصف ويحلل تعبيرات المحبين ومروياتهم، ويبني عليها كيانية الحب الخاصة، بناء على تأثيراته، من شدة الولع والألم إلى اللذة والراحة والدف.
كل هذا يدرس في الزمن الذي يقطعه الحب في عقل المحبين ووجدانهم. وعلى الرغم مما أثير حول رؤية فرويد للحب، وتبني الكتاب لمفاهيم نفسية، إلا أن العظم لم يكتف بالرؤية الجنسية المشكّلة للعاطفة الإنسانية بوصفها علاقة مغلقة بين المحب والمحبوب، بل وضع للحب بعدا معرفيا متجددا يأتي من الثقافة والتعبير، ولجأ إلى التراث العربي ليوضح نماذج عاشقة وغارقة في الحب وليدرس آثارها ويصف أجزاء من حياتها، مركزا على قصة جميل وبثينة، مقيما إياها وفق طبائع الشخصيات التي تُكتب، وتحليلا لنماذج تُطرح في التاريخ أشبه بالأسطورة وتحليل مكنونات شخصياتها وأثرها على الوجدان والشعر العربيين، وأنواع المحبين وأبعاد تصرفاتهم نفسيا، كأن يكون المعذب في الحب مستمتعا بعذابه، أو الذي ينقطع عن إبداء الحب ليؤلم الآخر، مركزا على شخصيات سادية ومازوشية، كل منهما يعبر عن الحب وفق إطاره وتكوينه ونماذج شخصيته العاطفية. الكتاب إظهار للحب ببعده النفسي والفكري، بوصفه علاقة طاغية في أحايين كثيرة، تربط المحبوب بالمحب، وتجعل المحب في حال من الشكوى والألم والانتظار، وفي وجهة أخرى بوصفه متشكلا من وضعية نفسية يحتل فيها الجنس والشهوة مدارا أساسيا.
يوضح الكتاب لقارئه أن الحب يختلف بين ما يكون إفضاء لرغبة ملحة كيميائية، وبين معنى سياقي سلوكي وثقافي، ويمكن دراسة التعبيرات الواردة منه. صدر الكتاب عام 1981، ولا يزال صوتا معبرا عن المدرسة الكلاسيكية النفسية في فهم السياق العاطفي، والمدرسة الحديثة التي فحصت أساطير الحب العربية والفلسفية ولو بشكل مبسط لكنه يُلمح إلى أهمية تجاوز الفرودية واستيعابها في آن واحد.
زكريا ابراهيم ومشكلة الحبّ
إحدى التجارب اللافتة في هذا السياق كتاب "مشكلة الحب" وهو الكتاب الخامس في سلسلة مشاكل فلسفية التي طرحها المفكر المصري زكريا ابراهيم. كتاب "مشكلة الحب" كتاب معرفي منهجي، يأخذ من فكرة الحب عنوانا عريضا ليرصد كل الأفكار الفلسفية والنفسية عن الحب. وهو يقترب من أن يكون موسوعة معرفية عن الحب، راصدا فلسفة الحب من كونها إشكالية فلسفية وداخل مضمار علم النفس في آن واحد. ويقتفي الكتاب أبعاد الحب من كتب الفلسفة وأفكارها، ومن موضوعات الحب الملتصقة بالإنسان، بدءا من محبة الحكمة، وأخلاقيات الحب، واللغة الاجتماعية للحب كمقدمة، وصولا الى توالي فصول الكتاب التي تعاير مفهوم الحب من تفاصيله الأولية، بحب الذات والنظرية الفلسفية التي خُلقت لحب الإنسان لنفسه، وحبه الإله الخالق، وتوق الحب نحو مواضيع تتجاوز الفهم الفطري للحب، ونقله إلى مستويات أعمق، بعلاقة الحب بالآخر، وأسباب توقنا الى حب الآخر انطلاقا من حبنا لذاتنا أيضا.
يبحث زكريا إبراهيم معايير الحب ضمن مفاهيم أصبحت إشكالية، حيث رحلة الذات الإنسانية في الحب بدءا بالعلاقة مع الآخر، من منطلق الشفقة والتودد، والخلاف الفلسفي والنفسي حول مفاهيم التعاضد والمحبة الموجهة الى الآخرين، وولادة أفكار المحبة بوصفها سلوكا لكشف الذات وشعورها العاطفي بأنها تنقاد نحو الآخر. فتبدو رحلة الكتاب موجهة إلى تفكيك معالم الحب اجتماعيا وفلسفيا من علاقات يتسع فيها مفهوم الحب عن كونه حبا بين حبيبن. ويقتفي الكتاب مشاعر حب الصديق، وحب الأم، ويبدو فصل حب الصديق إشكاليا لارتباطه بالفلسفة اليونانية وطبيعة فهم الصداقة والعواطف المكرسة بين البشر. ولا يقف الكتاب في كل قسم من فصوله عن تفكيك الارتباطات وطرح الآراء، موسعا لقارئه أشكالا لن يألفها من تفاصيل الحالة المُحِبة وخلقها والأفكار التي رافقت تحليلها.
يعالج فروم سلوكيات لا تظهر بوصفها عاطفية أو عشقية لكنها تحمل أبعادا لفقد الحب والحياة العاطفية السليمة
الباب الثاني من الكتاب يُبرز أشكال الحب، بادئا بالأمومة متداخلا بين الفكرة الفلسفية وعلم النفس الصرف. يملك الحب حينئذ أبوابا أوضح لما نحاول معرفته ومعاينته في أشكال حبنا وتشكيل عواطفنا. ويلي فصل الأمومة باب العبادة، توق الذات الى إله وتشابه معيار البشر في المحبة الأرضية ووصلها بالمحبة الكلية الإلهية، وهنا يقدم المفكّر ملخصا فلسفيا وصوفيا عن أفكار الحب الخيرية المطلقة بحب الإله والانوجاد في مدار العشق الإلهي، وعلاقة الإيمان بوصفه النقلة الأولى نحو الحب الإلهي والإيماني، ويتم هذا برصد فلسفي للشرق والغرب في آن واحد.
يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى أنماط الحب، مستعرضا الفلسفة منذ بدايتها وهي تضع السياق العاطفي في مدار المنطقي، الإيروس الأفلاطوني وهو يبحث عن التوسط للبشر نحو الآلهة، وتأثر المسيحية بفكرة الخير المطلق وممارسة العشق الإلهي إيمانيا وسلوكيا من خلال تجسد محبة الرب في التعامل مع البشر، وأنماط العشق الصوفي والإيماني للاتصال بالله.
يخصص إبراهيم في كتابه حيزا لمناقشة قيمة الأفكار، فكرة المحبة ورحلتها عبر الذات الإنسانية، سلوكا ومقدرة، وكيف تحولت بالمسيحية المحبة إلى إيثار رهباني. ثم يقوم الكتاب على مركزية سؤال أنواع الحب وفق أطواره، نقلا بين نماذج الحب ومقتضياته، وكيف تطور الحب وأساليبه والنطاقات الإنسانية للتعبير عنه. من حضرة الحب بين محبوبين، وحب الذات الإنسانية، وانصهار أفكار الحب وتنويعاته.
"فن الحب" لإريك فروم
غالبية كتب عالِم النفس إريك فروم هي مقصد للعشاق والمحبين، فهو يقدم نقلة جديدة في حياة قارئه نحو المحبة والسلوك العاطفي الأرشد، لأنه يفرق بجدّية بين النظرية الجنسية لفرويد عن الحب، وبين نظريته القائمة على أبعاد نفسية أكثر تعقلا وإيجابية في فهم العلاقات الإنسانية. يسعى "فن الحب" إلى فهم علاقات الحب، من حب الذات لدى الطفل إلى حب الغير، والآثار العاطفية للعلاقات الاجتماعية وارتباطها بالحب الأولي للعائلة الأم والأب، ودور التشكل العاطفي الإيجابي في التفرقة بين ما يكون سلبيا في الرغبة والاشتهاء، والإيجابي في العاطفة التي تستمر وتبقى وتحافظ على سيرة طويلة للبشر في الوحدة والاندماج. ومن مسلّمة أخرى بأن الحب صناعة واجتهاد، وفيه الدور الاجتماعي والشخصي واضح ومصنوع. يُبنى الكتاب على فكرة أن الحب يشكل فلسفة موقف، وقدرة على فهم التجليات والأبعاد النفسية للشعور العاطفي والتصورات المرافقة له.
كما في كل كتاب نفسي أو فكري يبدأ الكتاب باقتفاء الحب من العلاقات الأولى للطفل ثم الأخوة والأمومة والصداقة والحب الجنسي الشهواني. كل هذا يمر عبر مراحل في تقنية فروم ونظريته التي تجعل بذرة الحب مخلوقة فينا، كنتيجة لفراق عن الأم، واتحاد بكيان عاطفي يحتوينا ويعيد إحساسنا بالوحدة والاندماج. ثم تتفكك عاطفتنا ضمن سياق المجتمع وحراسة النفس لأشكال وعيها والاشتغال على مقاومة الأفكار السلبية في معاملة الموضوعات العاطفية. فكلما زاد الاشتغال على النفس والفهم زاد الموقف العاطفي حكمة وفائدة، لأن مواضيع الحب كثيرة والموقف منها هو الذي يحددها. كل علاقة عاطفية هي ثمرة لإنتاج معنى وسياق إنساني، لتكوين النفس في مواجهة موقف ينزع نحو الاتحاد والاندماج.
يعطي فروم من خلال مختلف كتبه، التي ترجمت إلى العربية، نظرة حياتية ممكنة للحياة العاطفية بوصفها دائرة من المحسوسات والمشاركات العاطفية، في أن يُكون الحب آلية لرفع الذات وترشيد تصرفاتها ومعايشة أشكال وأنماط متزنة وقابلة للفهم. الحب فن، بمعنى أنه آلية يمكن اكتسابها لمقاومة كل أثر للنرجسية وطغيان حب الذات، الذي يجعل الإنسان أكثر وحدة، والدرس الذي يمليه فروم في الكتاب هو آلية تفريغ المشاعر بطرق مضبوطة، يعالج فيها حتى سلوكيات لا تظهر بوصفها عاطفية أو عشقية لكنها تحمل أبعادا لفقد الحب والحياة العاطفية السليمة، كحب الاستهلاك، والتدخين ومختلف الادمانات التي تحاصر العاطفة وتستهلك قداستها وأهمية وجودها.
يضفي باومان قيمة على ما تفقده البشرية اليوم في علاقاتها العاطفية من شعور حقيقي وانتماء قِيَمي لأدنى معايير الحب
يعطي الكتاب مفاهيم النرجسية والفارق بينها وبين الإيثار في حب الآخرين، مساحة كبرى، مانحا القراء أدوات للتمييز بين المحب والأناني، بين من يكرس عاطفته ليتحد مع الآخر، وبين من يطلب الحب من أجل التلذذ بنفسه، كل هذا يحوّل الكتاب إلى مُعلم كبير في الحياة العاطفية لترشيد غالبية تصرفات العشاق ونوازعهم وفهم النوازع الداخلية وتاريخ النفس البشرية وهي تعتاش على عواطفها ولا تعرف التمييز بين أنماط وعيها لفكرة الحب ومواضيعه واختلاف آثاره علينا.
"الحب السائل" لزيغمونت باومان
أحد أكثر الكتب التي انتشرت عن الحب في السنوات الأخيرة، يميل إلى دراسة معايير الحب وفقا لما أصبح عليه العالم الحديث اليوم، عالم الإنترنت والعلاقات عبر الشاشات التي جعلت الحب استهلاكا للبشر بدل الاتحاد معهم. يوسع باومان فكرة الحب على طريقة فروم، مشيرا إلى معالم الرأسمالية الحديثة التي جعلت اندماج الفرد ومحبوبه بالاستهلاك وشراء الأشياء، وتبدل شعورنا بالانتماء للوحدة البشرية مقابل الوحدة مع الشيء.
يبدو الكتاب بحثا في علم اجتماع التعاقدات البشرية وأشكالها، وتقوم البنية الأساسية للكتاب على فهم الصلب والرخو في العلاقات، فانهيار مفهوم العائلة بوصفها صلابة، نحو علاقات أقل فاعلية وثباتا، كسهولة الجنس لتحقيق الرغبة في نشوة سريعة، واللجوء إلى علاقات عاطفية دون الزواج للهروب من آثار العاطفة الصادقة أي التضحية والصبر والتحمل جراء التواصل التقليدي مع الآخر.
انقلاب لغوي وفلسفي يشهده العالم الحديث في رأي باومان، فالبطل العاطفي والمُعبر عاطفيا وعشقيا قد اضمحل، ليحل معه البطل الراغب، بدءا بالأشياء وصولا الى البشر. يُستهلك البشر عاطفيا مثلما الأشياء، كل شيء بات من الممكن تقديمه بوصفه امتلاء وعطفا وعشقا، لكنه آني وبسيط وساذج في أحايين كثيرة، لأنه جاهل بما يمنح الإنسان قدرة عاطفية عشقية تجعله في حالٍ أكثر استقرارا، ومع ذلك يختار ما هو مدفوع عليه، أن يستهلك ويستثمر برغبات آنية دون أي ثبات. مات الحب مع الرأسمالية والاستهلاك، وأصبح بدل الحب الرغبة فقط، هذا الاكتفاء يُصنع دوما ويُتبنى على نطاق واسع، لم تعد كلمات الحب سوى توازٍ مع لغة الشراء والبيع، وتوافر هائل لتحقيق الرغبة. باومان يُشعرك في الكتاب بأنه يضع مصطلحين زمنيين، الآني والمستمر، كفاصل بين الحب والرغبة، ولا يركز تماما على العلاقة العاطفية إلا من كونها أقرب إلى مشروع حياة متكامل، بدءا من الانتماء الى الغرفة الخاصة بدل البيت، وصولا الى الالتقاء العاطفي الذي أصبح سريعا بتعرف شهواني وجنسي.
يتناول باومان فكرة انهيار العائلة وانهيار البيت وانهيار أوقات اجتماع العائلة، في سياق ثقافة الأشياء الحسية التي تخفي طابع الحاجة الى إنسان آخر. فالمحبة أصبحت أشخاصا كثرا جراء طبيعة وسائل التواصل وعبر شبكة عنكبوتية تقضم اللقاء والحاجة والشوق والفقد، وتعطي البشر خياراتٍ جديدة للتعارف والتواصل ومن ثم تحقيق الرغبة، أي أن كل صلة حديثة هي من أجل التسلية وتفريغ الوقت لا الحب ولا الحاجة بمعناها النفسي والاجتماعي، بل إفضاء للرغبة وتكريس لها.
يتوسع الكتاب في الحديث عن الأشكال الاجتماعية الأكثر انتشارا في عصرنا هذا، ولا يتردد باومان في وصف العلاقات بأنها سخيفة ولا تحمل أي قيمة عاطفية رصينة. وقيمة الكتاب لقارئه هي أنه يضفي قيمة على ما تفقده البشرية اليوم في علاقاتها العاطفية من شعور حقيقي وانتماء قِيَمي لأدنى معايير الحب المعقولة أو التي يمكن بناؤها. ويُبرز الكتاب هفوات العشاق في أساليب محبتهم ويدفعهم الى التفكير في جدوى الكثير من تصرفاتهم التي تجعلهم مرغوبين أكثر من كونهم عشاقا أو محبيين، وإصلاحا لما قد يكون غشا في أقوالنا وأفعالنا حينما نعبر ونسلك سلوكا نظنه عاطفيا وهو لا يتجاوز تحقيق رغبة وإضفاء قيمة مغشوشة على كثير من رغباتنا.