منذ اندلاع الثورة العلمية التي هدمت فلسفة الطبيعة الأرسطية والعلماء يبحثون عن تعريف جامع مانع للعلم. لقد انهار العلم الذي يعرفون، فماذا سيفعلون؟ ساد التأمل الفلسفي في مجال العلوم الطبيعية وغيرها من العلوم لمدة ألفي سنة، ثم انهار على يد العلماء التجريبيين الذين أثبتوا إثباتا لا رجعة بعده أن التأمل الفلسفي المحض يمكن أن يأخذنا بعيدا عن الحقائق العلمية. كان الرياضي المشهور فيثاغورس يتخيل أن الكون قد تشكّل على هيئة قيثارة عملاقة تعزف عليها الآلهة.
ويُضرب المثل للزيغ الذي قد يتمدد إليه التأمل الفلسفي بقصة أرسطو عندما قال: "ينبغي أن تكون أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل"، مع أنه كان من الممكن بسهولة أن يعدّ أسنان زوجته ليعرف أن عدد أسنان المرأة كعدد أسنان الرجل. لكنه لم يفعل، لماذا لم يفعل؟ لأنه لم يكن تجريبياً، كما كان يُدّعى في القرون الوسطى، أو كما قرر توما الإكويني الذي صوّر أرسطو صورة ليست له.
هذه إحدى القضايا التي اكتشفها فلاسفة العلم مع بداية عصر الحداثة، أن اعتماد التأمل الفلسفي لا يكفي وإن كان إلى يومنا هذا يؤدي دورا محوريا في تطور العلم، إن كان العلم يتطور فعلاً، فالموقف المعتدل لا يعني إسقاط التأمل الفلسفي. من هنا ندرك أن الوضعيين قد تطرفوا بدورهم عندما أنكروا الميتافيزيقا بالكامل، فالميتافيزيقا داخلة في صميم العلم نفسه. ولا يمكن أن يتحرك أي عالم في أي مجال دون اللجوء إلى الميتافيزيقا التي ستزوده حلولا لمشكلة علمية أو تفتح له الآفاق للخروج من انسداد معرفي معين. وعلى الرغم من التضليل الذي قد يُحدثه التأمل إلا أن العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بالنظرية الفلسفية. العلاقة الطبيعية هي أن يكون هناك حوار خلاّق بين التأمل الفلسفي والتجربة، بين العقل ومعطيات الحواس.
أتينا الآن إلى سؤالنا الأول: كيف يعمل العلم؟
العلم يصحح نفسه بنفسه طوال الوقت. هو ليس بكامل لكنه أفضل ما نملك وينبغي ألا نفرط فيه
هناك قصة بسيطة تجيب عن ذلك. كان علماء القرن السابع عشر في حيرة أمام الضوء، بعدما تحول عالمهم إلى عالم مادي بالكامل، فتخيل بعضهم أن الضوء جسيم مادي، وبعضهم قال إنه مادة لا تشبه المواد. وإذا كان جسيما ماديا فما الذي يحركه؟ وإذا لم يكن مادياً فما هو؟
من هنا قيل إن هناك مادة اسمها الأثير. هي غير الأثير الطبي الذي يستخدم للتخدير. أثير الفيزياء له وظيفة أخرى. فهي مادة تملأ الفضاء الكوني وتحمل الضوء وتنقله من مكان إلى آخر. ووصفوا هذا الأثير بأنه بلا وزن ولا يمكن أن نشعر به، وينوجد في الفراغات والفضاء الخارجي وخلال كل مادة كانت. وقرروا أنه ثابت وأن الكرة الأرضية والأجسام الأخرى في الفضاء تتحرك خلاله.
وبقي هذا الاعتقاد سائدا حتى جاء الفيزيائي العظيم جايمس ماكسويل في القرن التاسع عشر وقرر أن موجات الضوء كهرومغناطيسية ولا تحتاج إلى ناقل وسيط. ولكن بقي العلماء بعده محتفظين بفكرة الأثير مع أنهم تشككوا فيها وفي طريقة عملها كثيرا. ثم جاء آلبرت آينشتاين بنظريته النسبية الخاصة التي قررت أن حركة الضوء لا تعتمد على وجود شيء يقال له الأثير، فشطب الأثير من الوجود.
هذه القصة لا ينبغي أن تغيب عن ذكاء الذين يؤلهون العلم. العلم يصحح نفسه بنفسه طوال الوقت. هو ليس بكامل لكنه أفضل ما نملك وينبغي ألا نفرط فيه أبدا. وفي مقابل هؤلاء، يجب على من يريدون السيطرة على العلم أو تقييده أن يتوقفوا عن محاولاتهم تماما. فالعلم لا يتطور، إن كان يتطور، إلا في بحر من الحرية المطلقة التي لا تقيد بقيد.