وجود القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا حول آبار النفط والمناطق الحدودية مع العراق، يشكل حجر توازن حقيقي في المعادلة السورية المعقدة. فهذه القوات تكسر الجسر البري الإيراني الذي يمتد من طهران مرورا ببغداد حتى دمشق وصولا إلى بيروت ثم إلى البحر المتوسط.
هذا هو الحلم الفارسي القديم الجديد الذي أشار إليه بول بريمر الحاكم المدني للعراق في فترة الاحتلال، عندما التقيت به مؤخرا في واشنطن، قائلا إن إيران تعتبر هذا الجسر البري جزءا من حلمها الاستراتيجي الذي سيجعلها على أبواب البحر المتوسط، تصدّر منه بضائعها ونفطها ويفتح لها رئة تتنفس منها بعد أن عانت من الاختناق لفترة طويلة بوجود أفغانستان-طالبان، وباكستان حليفة الغرب، وأذربيجان التي لا ترتاح لها، وعراق صدام حسين!
هذا الجسر الإيراني يمنعه انتشار القوات الأميركية التي عززت وجودها على الحدود السورية- العراقية وبدعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية. فلولا هذه القوات لتمكنت إيران من أن تجعل وجودها في المنطقة أكثر عمقا وفائدة اقتصادية لها.
خلال إعداد الوثائق للقاء الذي جمع الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، التي سربتها ملفات مجلة "المجلة"، تحدث الرئيس الإيراني عن هذه القوات الأميركية متهما إياها بنهب النفط السوري وبضرورة مقاومة وجودها هناك من خلال إيجاد الحلول التي تغير من معادلات تحالفاتها. وتشير التسريبات إلى التململ الإيراني من النزيف الذي تسببه سوريا في اقتصاد طهران خصوصا مع اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية التي جعلت الروس يتراجعون في سوريا، حيث ستتحمل إيران مسؤولية أكبر في حماية الأمر الواقع الذي نتج عن خلفية الثورة السورية، وفيما يبدو أن إيران ستعاني كثيرا في الحفاظ على مكتسباتها في سوريا.
هناك قناعة كبيرة لدى طهران ودمشق بأن بقاء القوات الأميركية مرتبط بالأكراد
هناك قناعة كبيرة لدى طهران ودمشق بأن بقاء هذه القوات الأميركية مرتبط بالأكراد، وأن القضاء على القوة الكردية سيجعل القوات الأميركية تراجع وجودها هناك.
بدأت إيران بالحشد لمعركة القضاء على الأكراد، فهذه القضية قبل أن تبدأ رابحة شعبيا ومجتمعيا في المنطقة بسبب المصالح السياسية والاختلافات العرقية والمجتمعية، فالأتراك سيكونون من أوائل الداعمين لهذه العمليات، وكذلك الفصائل السورية السنية التي تدعمها تركيا في الشمال التركي بالنتيجة سيقفون ضد الأكراد.
لكن إيران هذه المرة لن تقاتل الأكراد بميليشياتها الولائية في سوريا والعراق بل بدأت بحشد العشائر السورية السنية الموجودة في دير الزور وعلى امتداد الحدود السورية– العراقية. وهنا تكمن الخطورة. فقد اجتمع "الحرس الثوري الإيراني" مؤخرا مع عدد من زعماء العشائر لتشكيل جبهة جديدة ضد الأكراد باسم "فوج العشائر الهاشمية" ومن بين هؤلاء الزعماء نواف راغب البشير زعيم عشيرة البقارة وقائد ميليشيات "أسود العشائر" المدعومة من الحرس الثوري الإيراني. ولمن لا يعرف البشير فهو من أوائل شيوخ العشائر الذين انشقوا عن الأسد وأعلنوا معارضتهم له في بداية الأزمة السورية، ثم عاد بعد سنوات مع بسط الأسد سيطرته على المنطقة معلنا تحالفه معه من قلب دمشق، حيث تلقى دعما إيرانيا لتشكيل قوات عشائرية مهمتها مقاومة الوجود الكردي والقوات المعارضة لحكومة دمشق. فهذا الاجتماع حضره القائد الإقليمي لـ"قوات الدفاع الوطني" التابعة لحكومة دمشق محمد الرجا، وعبد الصاحب الموسوي من العراق، والحاج عباس من "الحرس الثوري الإيراني".
ولم تكتف طهران بهذا التحالف بل كانت المفاجأة هذا الأسبوع بظهور الشيخ إبراهيم الهفل شيخ قبيلة العكيدات في دمشق لأول مرة منذ الأزمة السورية. وهذا الظهور تزامن مع اشتداد القتال بين العشائر والأكراد.
الأمر الخطير هنا هو إقحام إيران العشائر السنية على خط الصراع مع الكرد واستغلال فورة غضبهم وهيجانهم من التصرفات الكردية
ويواجه الهفل صعوبات بالغة في تمرير هذا التحالف بسبب وجود عدد كبير من أبناء قبيلته في قوائم المطلوبين في دمشق فهل تكشف الأيام المقبلة تسوية بين الهفل ودمشق مقابل قتال الأكراد الذين استطاعوا خلال الفترة الماضية أن يعيدوا زمام المعركة بيدهم في ظل الفارق الكبير في القدرات العسكرية بينهم؟
كان وما زال وسيبقى وجود الأكراد في شمال سوريا والعراق أزمة للجميع. وليس للأكراد ذنب أن خلقوا في هذه المنطقة التي تتجاذبها الصراعات. لكن ولاء الأكراد عبر التاريخ واضح وصريح لقضيتهم وهذا ما يجعلهم يتنقلون من خندق لآخر عبر تاريخ الصراع.
الأمر الخطير هنا هو إقحام إيران العشائر السنية على خط الصراع مع الكرد واستغلال فورة غضبهم وهيجانهم من التصرفات الكردية. لماذا هو خطير هذا الصراع؟ لأن ضرب العشائر السنية بالكرد سيضعف الطرفين ويفتح الطريق لتركيا وإيران للعب أدوار أكبر في سوريا بعد إضعاف العشائر والأكراد. فالعشائر هي خزان عروبة سوريا والعراق وتحالف زعمائها الغريب مع الفرس سيجعل من هذه التحالفات قصيرة النظر وبالا على مستقبلهم ومستقبل عشائرهم الاجتماعي والسياسي ومهددا لهويتهم الثقافية والدينية لمصلحة إيران وجسرها البري الذي سيمر عبر جسد العشيرة وسيشعل فتيل خزان عروبتها.
والحل يكمن في إيقاف هذه المعارك العبثية التي لا طائل منها، خصوصا مع الرغبة الأميركية للدخول في إصلاح العلاقة بين العشائر والأكراد.