خلال الأشهر الأربعة الماضية تعلّمت ابنتي التي تخطو نحو عامها الرابع والعشرين، عن تاريخ فلسطين، والاستعمار الإسرائيلي، أكثر مما تعلمته في حياتها كلها. وهي في ذلك ليست استثناء. فهي تنتمي إلى جيل، في أغلبه، ولأسباب كثيرة يطول تفصيلها، منها ما يتعلق بالقضية الفلسطينية نفسها، لا تعد فلسطين شاغلا من شواغله. إنه جيل ما بعد الألفية الثانية، الإنترنت والتواصل الاجتماعي و"التعددية الثقافية"، وهو الجيل الذي لم يحتج إلى "تربية" و"تلقين" ممن هم أكبر سناً، حول القضايا والأولويات، والخطأ والصواب، والخير والشرّ، ولم تكن مفردات مثل "الإمبريالية" و"التحرر الوطني" إلخ جزءا من وعيه التأسيسي ولا من وجدانه. إنه جيل ربّى نفسه بنفسه، واكتسب قيمه الجماعية، الكونية إلى حدّ كبير، من مصادر لم تكن متاحة للأجيال التي سبقته.
لكن المفاجأة الحقيقية، أنه، في تربيته الذاتية هذه، لم يكن للسياسة الثقل ولا التعريف نفسه الذي كان متسيدا قبله. السياسة بوصفها آلة مصالح وإرادات وتسويات، بصرف النظر عن الثمن الذي يُدفع لكي تواصل هذه الآلة عملها، لم تعد تتمتع لدى هؤلاء الشباب بالوزن الحاسم نفسه، بقدر ما حلّت القيم الأساسية والبديهية، قيم العدالة وحقوق الإنسان، بوصفها معايير أولى للحكم على الأحداث والمواقف العامة.
بهذا المعنى، فإن حرب غزة، تتبدّى لجيل الشباب، جزءا من عالم قديم لا يفهمونه وليسوا مستعدين لتقبّله. إنه عالم تشكّل فيه الحرب، ويحتلّ العنف بأشكاله القصوى، أي القتل والتدمير والتجويع والإبادية، جزءا من أدوات السياسة، وقد نشأنا طوال العقود الماضية على الاستسلام الخانع لهذه النظرية كأنها سنّة طبيعية من سنن الحياة، في حين ينظر إليها الشباب اليوم بصدمة وذهول، ولا تني تتردّد على ألسنتهم عبارات الاستهجان أمام كلّ ما يشاهدونه من فظائع.
ليس فضلا من أحد أن يرى الجريمة ويقول إنها جريمة وأن يرى الاحتلال ويعترف بأنه احتلال
هذا الجيل الذي انبرى مدافعا عن التعددية الثقافية، وعن قبول الآخر، وعن مناهضة العنصرية والتمييز، لا يقبل ببساطة أن يكون القتل مكوّنا من مكونات حاضره ومستقبله. وبالتالي، فإنه لا يحتاج إلى المجادلات والمحاججات القديمة التي كثيراً ما كانت تطرح عند نقاش القضية الفلسطينية. وإذ يقرأ التاريخ، فإنه يقرأه بهذه العين وبهذه الرؤية، فيرى الحقائق عارية أمامه، ولا يخضعها لمنطق التسويات السياسية أو "الواقعية السياسية". إنه يرى الخطأ ويشير إليه، دون أن يغرقه بطبقات وطبقات من الذرائعية التي لا تفضي في النهاية إلى شيء، وليس مستعدا للتنازل عن القيم المبدئية لما يجعل البشر بشرا، في سبيل التوصل إلى أوهام حلول جزئية.
في خضم نقاشاتي الدائمة مع ابنتي، أبديت ذات مرة إعجابي بإسرائيلي تعاطف من منطلقات إنسانية مع الفلسطينيين الذين يقتلون في غزة، ولا سيما الأطفال منهم. فقالت لي إنها وانطلاقا من تجربتها في متابعة مثل هذه المواقف (رغم قلتها)، إن مثل هذه المواقف لا تعني لها شيئا. فحاولت المحاججة بأنه في ظلّ التجييش الإسرائيلي الشامل ضدّ الفلسطينيين، وارتفاع الأصوات المنادية بالإبادة والمؤيدة لما يقوم به جيش الإحتلال، فمن الجيد أن نسمع أصواتا كهذه، فأجابتني بأن مشكلة هذه المواقف أنها تتعامل مع الفلسطينيين كأنهم ضحايا كارثة طبيعية، تستوجب التعاطف الإنساني، وتسعى إلى التنصّل من حقيقة أن مأساة الفلسطينيين، في غزة وخارجها، نابعة من الاحتلال وليس من أيّ شيء آخر. الإسرائيلي النزيه، تقول ابنتي، ليس ذلك الذي "يتعاطف" مع الفلسطينيين، بل الذي يعترف بأن دولته دولة احتلال، وبأن مأساة الفلسطينيين منذ 75 عاما، نابعة من وجود طرف ينكر أساسا وجودهم.
أجبتها بأن هناك كثرا من الإسرائيليين يصدقون الرواية الصهيونية، وربما يعيش بعضهم حياتهم كلها دون أن يسمع رواية أخرى، فأجابتني بأن هذه هي المشكلة بالضبط. فالفلسطينيون ليسوا شعبا يمكن التغاضي عن وجوده، إنهم بالملايين، ومئات الآلاف يحتكون بالإسرائيليين بشتى الطرق، لأن دولة الاحتلال لا تعيش دون أن ينخرط الآلاف منهم في حياتهم اليومية، كما أن هناك حروبا تكفي وحدها للقضاء على حالة الإنكار المزمنة هذه لدى الإسرائيليين.
قالت لي ابنتي إنه ليس فضلا من أحد أن يرى الجريمة ويقول إنها جريمة وأن يرى الاحتلال ويعترف بأنه احتلال. عكس هذا الاعتراف تواطؤ ومشاركة في الجريمة، أما الاعتراف به، أو الاعتراف ببعض نتائجه لأسباب "إنسانية"، فليس فضلا ولا منّة. وقالت لي ابنتي إن أيّ كلام عن سلام قابل للاستمرار لا يستقيم دون الاعتراف بجذور الاحتراب، وتلك الجذور في فلسطين ليست رأيا ولا وجهة نظر، إنها تعود إلى حقيقة واحدة وهي الاحتلال. وإنه واجب المحتلّ أن يتقدّم ويعترف ويعتذر، حتى يكون سلام حقيقي، لا أن يبحث كلّ مرة عن طريقة يلتفّ بها حول الحقائق، ومن سبل الالتفاف تلك – تشدّد ابنتي – أولئك الأفراد وتلك المجموعات، التي سعيا وراء سلام سطحي وعابر تختصر المسألة بـ "أقلية فلسطينية" ضعيفة ومحرومة من الحقوق، أمام أكثرية إسرائيلية قوية. حقيقة الأمر أن هناك شعبا فلسطينيا يريد إقامة دولته المستقلة على أرضه، وليس مجموعة بشرية فلسطينية تبحث عن حقوق أو عن تعاطف إنساني.
"التعاطف الإنساني"، لا يجب أن يكون بديلا عن الاعتراف الواضح وغير المساوم، بالحقوق المشروعة
كنا، قبل هذه الحرب الأخيرة، والجرائم الهائلة التي لا رجعة فيها التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، نردّد مثل هذا الكلام، لكنه لم يكن يتجاوز بالنسبة إلينا الشعارات، مدركين أننا في نهاية المطاف، سيكون علينا القبول بما تجود به علينا الإرادات الإقليمية والدولية. أما جيل ابنتي، فلا يرى الأمور بهذه الطريقة، ولا يعتبر حقوقه مجرد شعارات، ولا جرائم إسرائيل مجرد نتائج طبيعية، إنها تقوم عنده مقام السياسة نفسها، ولا يستوي أيّ نقاش سياسي من دون الإقرار بهذه المبادئ.
أما "التعاطف الإنساني"، تقول ابنتي، فلا يجب أن يكون بديلا عن الاعتراف الواضح وغير المساوم، بالحقوق المشروعة، وكلّ ما عدا ذلك فأوهام عجائز يبحثون عن وجبة لذيذة وقيلولة هادئة، ولا يبحثون عن تحقيق العدالة.