خمسة أفلام جديدة تؤكد أن السينما العالمية أفاقت من كبوتهاhttps://www.majalla.com/node/310586/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D8%A4%D9%83%D8%AF-%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%81%D8%A7%D9%82%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D9%83%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%87%D8%A7
نشهد خلال أسابيع قليلة حفل جوائز الأوسكار التي يتشكل معظم المتنافسين عليها من المشاركين في الأفلام المنتجة خلال العام السابق، عام 2023، الذي جاء ليزيح شكوكا وتشاؤما أحاطا بمستقبل السينما بسبب الأعوام التي أعتمت فيها صالات العرض جراء جائحة "كوفيد-19" وازدهرت المنصات الرقمية حتى ظن عشاق السينما أنهم لن يلاقوها مجددا.
بشرنا العام الماضي بمجموعة من المنعطفات الإيجابية، إذ برز فيه عدد من الأسماء الواعدة، واستؤنفت إنتاجات سينمائية تعثرت بسبب الجائحة. وفيما كانت هناك عودة لافتة لعمالقة السينما، كانت لحظة "باربينهايمر" هي الأبرز في هوليوود بعيدا من صناعة الملاهي وأفلام الأبطال الخارقين التي أصبحت أخيرا استثمارا خطرا.
كما شهدنا تنوعا في مصادر الأعمال السينمائية العربية ومضامينها، فأتت إنتاجات من دول لم تكن في صلب المشهد السينمائي العربي، مثلما رأينا مع السودان في "وداعا جوليا"، واليمن في فيلم "المرهقون"، بينما قفزت السينما السعودية في بشكل ملحوظ عبر المشاركة في الأقسام المختلفة من "مهرجان تورونتو السينمائي" بثلاثة أفلام دفعة واحدة.
يخلق إريسه انفصالا أسلوبيا بين الخيال السينمائي والواقع الحقيقي، من خلال تثبيط المواصفات الجمالية للصورة
أما السينما العالمية، فيبدو أنها تعيش أفضل لحظاتها منذ سنوات، عبر كمٍ هائل من الأعمال المميزة، والأسماء الكبيرة مثل جوستين ترييه التي صنعت فيلما بُني بأكثر الطرق السينمائية كلاسيكية، وفيم فندرز الذي غازل طريق الاعتزال والعودة مرة أخرى، وتود هاينز الذي شاكس بجدارة جوليان مور وأثار بتأملاتها حول نتالي بورتمان. أما التركي نوري بيلغ جيلان، فصنع أكثر شخصياته اللا-مثالية على الإطلاق، والمتعدية بجرأة على المواصفات البطولية، في حين تنقل ليساندرو ألونسو ببراعة بين مكان وزمان في "يورِكا" مستحضرا الأثر الاستعماري كما فعل في فيلمه "خوخا" (2014). وبين الأسماء الجديدة، برز فام تين آن من خلال فيلمه "داخل قشرة الشرنقة الصفراء" ليكون اسما فيتناميا واعدا يجيد صنعته بقدر الفيتنامي الآخر تران آن هونغ الذي صنع الفيلم الفرنسي الأعذب هذا العام.
وقبل استعراض نخبة من هذه الأفلام بشيء من التفصيل، يمكن تلخيص هذا التميز السينمائي، في الاتجاه المشترك لدى العديد من الأعمال نحو إحياء الجوانب التقليدية للسينما، من خلال الإيمان العميق بمضمونها التخييلي، والتحول التدريجي من الواقع إلى عالم الدهشة، تماما كمعادلة "الساحر أوز" (1939) حيث الهدف هنا مواجهة هدير الصور المتزايد الذي يملأ الوسائط في واقع اليوم. إنها محاولة جادة لإضفاء قيمة الخصوصية على السرد السينمائي، إما من خلال بناء تراكمي يتأنى ليقاوم سرعة الانزلاق إلى عالم الخيال، وإما عبر إبداع ذلك البناء وسيلة ضرورية في منتصف هذا المسار، مما أسفر عن أفلام تحمل في أغوارها أفلاما أخرى، أو حكاياتٍ تتشعب لتحتل مكانة مركزية في السرد، أو في صوغ عوالم موازية في أزمنةٍ مختلفة تتفاعل مع هذا الواقع حتى تتحد معه في وحدة لا بين فيها. في هذا السياق، يتنفس الواقع التعيس للصورة عبر الخيال السينمائي، وينتقل من خلاله إلى إطار أوسع، مما يخلق أفلاما متعددة الأبعاد والوجوه والاحتمالات.
بين أفضل أفلام عام 2023، يتصدر فيلما "أغمض عينيك" للإسباني فيكتور إريسه و"ترينيكي لاوكين" للأرجنتينية لاورا سيتاريلا قائمتي الشخصية. هذان العملان يرتكزان على ثيمة الاختفاء، أو الرغبة فيه، وربما الهوس به. فيستعين إريسه بالخيال السينمائي وسيلة للاستعادة المادية لهذا الفقد، وتحقيق المعجزة السينمائية في تجسيد الأشباح التي لم تعد موجودة حتى في الذاكرة، في حين يعتمد فيلم سيتاريلا على تفعيل الخيال القصصي ضمن سياق الحياة العادية إلى أن يبتلع شخوص الواقع من هذا الكون.
الفيلمان يحكيان رحلة بحث عن شخص مقرب اختفى دون مقدمات. ولتحقيق سرديتهما السينمائية استخدم كلاهما الخيال الإبداعي وسيلة لتحقيق الاختفاء أو لاستعادة أشخاصه منه. فعلى الرغم من القاسم المشترك بين الفيلمين المتمثل في توغلهما في النسيج الفانتازي، إلا أنهما عملان يوقظان فكرة أن ما نراه من جماليات تزخرف المضمون هي دخيلة على واقع الصورة، بل قد تكون متعدية على حقيقتها، وأن هذه الجماليات ليست إلا رغبة سينمائية يتم هجاؤها شكليا، ويكون السعي إلى تحقيقها احتياجا ضمنيا.
"اغمض عينيك" لفيكتور إريسه
يستهل فيلم إريسه بأكثر مشاهد العام استخداما للمترادفات السينمائية، فنرى محققا يدخل قصرا منعزلا في غابة فرنسية خلال أربعينات القرن الماضي، ليلتقي ملكا يعتمر تاجا، يوكل إليه مهمة البحث عن ابنته المقيمة في الصين، وهي آخر من تبقى من سلالته، إذ يرغب الأب المتوج في النظر إليها للمرة الأخيرة قبل وفاته. وما أن يشارف هذا المشهد الرائع على الانتهاء، حتى ندرك أن ما رأيناه ليس إلا فيلما داخل فيلم. هذا الإدراك للواقع مقابل الحكي السينمائي الفاتن، رأيناه في الشكل نفسه هذا العام في فيلم "يوريكا" لأليساندرو ألونسو، إذ ينطلق الفيلم بمشاهد من الغرب الأميركي يظهر فيها فيغو مورتنسن وكيارا ماستورياني، وبعد سلسلة من المشاهد المتعاقبة التي تستمر لأكثر من 20 دقيقة، نخرج من الشاشة إلى الواقع الحالي، ليتبين أن ما رأيناه وغُمِرنا فيه، ليس إلا فيلما يُعرض على التلفزيون.
في العودة إلى فيلم إريسه، فهو يخلق انفصالا أسلوبيا بين هذا الخيال السينمائي والواقع الحقيقي، من خلال تثبيط المواصفات الجمالية للصورة وكبتها في هذا الواقع الذي سيسعى بذاته إلى تحقيق أقصى درجات الخيال السينمائي لاحقا. يظهر ذلك من خلال توظيف بصري يطفح بركود الكاميرات الرقمية، على عكس سحر الصورة النقية في المشهد الافتتاحي الذي تقول لنا الحكاية لاحقا إنه صوّر على أفلام الخام. التناقض بين الفيلم الذي يحمل الحكاية الأساسية والفيلم الذي يخبرنا عنه المشهد الافتتاحي، يظهر سواء في زوايا التصوير أو براعة تقديم الحوار، أو طبيعة الحبكة ذاتها التي تنتمي بوضوح إلى السرد في العصر الذهبي للسينما، أو التقاليد الأصيلة التي نجدها في أفلام همفري بوغارت أو سينما جوزيف فون ستيرنبيرغ على سبيل المثل.
يستوعب "ترينكي لاوكين" مغزى الزمن وتمدده الغامض بين حكاية اليوم والأمس بطريقة تتجاوب مع السياق السياسي في الأرجنتين
هذا الحضور المغاير داخل نسيج الفيلم، هو تواز وتخاطب يعبران عن حالة سينمائية يسر بها الهيكل الواقعي الممل، وضوء يلهم الواقع، إما لاستمرار الندوب القديمة التي لم تلتئم بعد كما هي في فيلم "يوريكا" أو كطقوس سينمائية تستوجب إيمانا عميقا بها لحل مسائل الواقع المعقد، كما فعل إريسه بروعة في "أغمض عينيك"، وكارل ثيودور دراير من قبل.
"ترينكي لاوكين" للاورا سيتاريلا
ينطلق فيلم "ترينكي لاوكين" فورا في رحلة البحث، ثم يعود بالزمن بعد ذلك لفهم العنصر الدافع إلى الخيال.يبدأ فيلم المخرجة لاورا سيتاريلا بتتبع رحلة إيزيكيل ورافاييل للعثور على لاورا في بلدة صغيرة اسمها ترينكي، ويتبين لنا في ما بعد أن لاورا كانت صديقة سرية لإيزيكيل، ذلك ومن خلال رسائل تدسها له خلال رحلة بحثه عنها. كما يسترجع الفيلم بعمق لقاءات سابقة بين شخصيتي ايزيكيل ولاورا، وينصب التركيز خلال تلك المشاهد على حل لغز غامض لكاتبة قديمة عاشت في القرية نفسها، اختفت أيضا في أثر ظروف غامضة.
خلال تفحص لاورا لأعمال تلك الكاتبة، تكتشف مراسلات سرية بينها وبين معشوقها في المكتبة العامة للبلدة، لنجد أنفسنا في حكاية داخل الحكاية، ونخوض من داخل هذا الاسترجاع رحلة لغز آخر، يتعلق بقضية اختفاء أخرى.
هذا الفيلم المتأني الذي تتجاوز مدة سرد أحداثه على الشاشة أربع ساعات، والمنتمي إلى سينما "إل بامبيرو" التجريبية الأرجنتينية التي انطلقت في 2002، يذكّرنا واقعه الجاف من الألوان السحرية ومضمونه المتجه نحو أقصى درجات الهوس الفانتازي، بذلك التضاد الموجود في سينما جاك ريفيت.عند هذا الخط الواقعي تجري أحداث الفيلم في سكون اليوميات، بينما تحلق خيالات شخصياته عند آفاق السماء، وكله بما ينسجه الفيلم من تضاد من دون خرق أو تشويه لكلتا الحكايتين، مما ينقلنا في نصفه الثاني عند بلدة لاوكين إلى إثارة الحيرة في شأن الغرض الأسمى الذي قاد لاورا الى قرار الاختفاء.
يستوعب هذا العمل مغزى الزمن وتمدده الغامض بين حكاية اليوم والأمس بطريقة تتجاوب مع السياق السياسي في الأرجنتين، وفي الوقت ذاته يستعين ببراعة بأساليب السرد الخيالي، مع الوعي الفني بالوسائل التقنية التي قد تدخل لتشوه الحقيقة أو تتلاعب بها بقصد تزيين محتوى الصور. يتجسد ذلك حرفيا من خلال الإفاقة المتعمدة للمتلقي من الهيام بتلك الأدوات، وذلك عبر إبراز هذه الجماليات ومن ثم سحب عنصر منها يهدم كل هذا التناغم، إما بقطع حاد للصور الجمالية، وإما بتوقف الموسيقى المفاجئ.
الفيلم الروماني "لا تنتظر الكثير من نهاية العالم" واحد من أكثر الأفلام راديكالية في تناول المشهد المضطرب في أوروبا
الأمر نفسه رأيناه في فيلم آخر هذا العام، "الشر لا وجود له"، للياباني ريوسكي هاماغوتشي، الذي عمد تكرارا إلى إيقاظ وعي المشاهد على مستويات عدة بين الطبيعة بما تحمله من تزيين أو غموض، والتخلص من هذا التزيين في منتصف اللقطة من خلال توقف الموسيقى بما يقطع التدفق الكاذب الذي يغيب خلفه واقع الصورة.
"لا تنتظر الكثير من نهاية العالم" لرادو جود
في خضم كل المتاعب الأوروبية، بين الحرب الأوكرانية الروسية وصعود اليمين في مجابهة الانزلاق نحو مصير الليبيرالية الرأسمالية، وفاشية الخطاب العام في معظم دول القارة، تعيش رومانيا ربما أكثر الحالات اختلافا، على الرغم من كونها أكثر دول الاتحاد الأوروبي يأسا على الصعيد الاقتصادي.
في هذا السياق، يأتي الفيلم الروماني، "لا تنتظر الكثير من نهاية العالم"، للمخرج رادو جود، واحدا من أكثر الأفلام راديكالية في تناول هذا المشهد المضطرب في أوروبا بشكل عام، والتبعية للغرب في رومانيا بشكل خاص. وفي تراجيدية ساخرة، يقودنا الفيلم في رحلة مع أنجيلا، مساعدة الإنتاج، التي تقود مركبتها طوال الفيلم في أنحاء بوخارست أثناء عملها في مشروع يتناول قضايا السلامة الوظيفية، في تسليط للضوء على حوادث العمل وتأملاتها من خلال تمرين ساخر محوره الأساسي فكرة العمل في زمن الرأسمالية.
يفسح رادو جود هنا مجالا لاستكشاف مختلف لمفهوم الصورة الحديثة، ويعزز ذلك من خلال استعادته مشاهد من فيلم روماني آخر داخل هذا العمل، وهو "أنجيلا تواصل القيادة" (1981) الذي تدور أحداثه عن سائقة سيارة أجرة تجوب شوارع بوخارست في فترة حكم الديكتاتور الروماني الأخير نيكولاي تشاوشيسكو، وهو فيلم يمكن وضعه تحت مظلة السينما الدعائية التي تفتعل الإشراقة من دون أن تخلو من الفجوات التي تفضح - عن دون قصد- زيف هذه الصور.
هذه المشاهد الدخيلة والحادة، تتجاوب مع رحلة مساعدة الإنتاج في مفارقة الواقع، الذي يقصد السعي الظاهري إلى الفضيلة بكل ما فيه من يأس. وعلى عكس أي استعادة بين صور اليوم والأمس، يأتي الحاضر هنا بالأبيض والأسود، في حين يحضر الماضي ملونا.
يعكس كوريسماكي الواقع الاجتماعي في فنلندا خلال فترة صعود اليمين وما بعد الركود الاقتصادي
يعتمد رادو جود كذلك على تحدي المشاهد وإرهاقه داخل سباق مع التعب، ليجعله يلهث مضطرا بين ثِقَل تقاطعاته، حيث يكون غاضبا في خطابه حد الطعن، وسخيفا في إحراج مشاهده لمرحلة الضحك. أجل، إنه يقسو على المشاهد دافعا إياه إلى أقصى أنفاسه، مما يجعله يكسب قيمة ملموسة لما يقدمه، فلا يهذي كوثائقيات غودار، ولا يتصنع المعنى كأعمال روبن أوستلوند بل يدفع بالحقيقة إلى الأمام إلى حد التشكيك فيها، وهذا ما يربك مبرمجي المهرجانات الكبرى، إضافة إلى هيكله الذي قد يصفه البعض بأنه "عوليس" سينمائي، لكنه يحمل على نحو استثنائي توقيعا لومييريا كما نرى في لقطة الفيلم الأخيرة.
"أوراق متساقطة" لآكي كوريسماكي
تتوسع الأفكار حول التقاطع الأوروبي وتأثيره على المشهد السينمائي الأوروبي أيضا في فيلم الفنلندي المخضرم أكي كوريسماكي، الذي عاد بعد اعتزالٍ أعلنه في الفيلم الثاني من "ثلاثية اللاجئين" كما أطلق عليها.
وعلى الرغم من عدم إنجازه الجزء الثالث من تلك الثلاثية، إلا أنه عاد بالزمن إلى ثمانينات القرن الماضي ليصنع فيلما رابعا من ثلاثيته السابقة "البروليتاريا"، من خلال فيلم "أوراق متساقطة"، الذي يصور فيه هذا المخرج الذي يبرر - بسخرية- صنعه الثلاثيات بخشيته من الأفكار الجديدة، خيالا سينمائيا يجمع بين أجمل أفلامه السابقة، وأفلام أخرى، داخل مناخ يعكس الواقع الاجتماعي في فنلندا خلال فترة صعود اليمين وما بعد الركود الاقتصادي، بالتزامن مع آثار الحرب الأوكرانية الروسية الراهنة.
يأتي فيلم "سماء حمراء" ليكون عملا يتحرك وفق مفهوم السرد وقوته بمعناه الحرفي والمعنوي
يتجلى لجوء الفيلم إلى السينما الكلاسيكية في رسمه لقصة حب هولابا وآنسا، التي تجد في المصادفة والأقدار مكانا لها مقابل سخط الواقع، إذ أن المخرج الصارم في التخلص من الدراما والمشاعر من ممثليه ومن عالمه، يقدم هنا ميلودراما تنتمي في سرديتها إلى أفلام مثل "لقاء قصير" (1942)، وصور رومنطيقية تنتمي إلى سينما دوغلاس سيرك، وتختتم كذلك بتحية لتشابلن سيد الحركة والتقلب المستمر بين أقصى درجات المشاعر.
"سماء حمراء" لكريستيان بيتزولد
ليس هناك من يتقن الميلودراما ويجد لها مكانا فاعلا في واقع اليوم مثلما يفعل كريستيان بيتزولد، وفي "فينيكس" (2014) و"أودين" (2020) نجد خير دليل على ذلك.وفي 2023، خاض بيتزولد في "سماء حمراء" أو "علاقة" بالإنكليزية استكشافا لنصوصه المحسوسة والبصيص الفانتازي، لكنه هنا أكثر انبساطا على المساحات الواقعية، وبطابع روميري يذكرنا في "لا كوليكسونوز" (1966) بتراكماته الدقيقة ونسيمه الصيفي.
تدور أحداث الفيلم حول ليون الذي قرر تمضية الصيف مع صديقه فيليكس في منزلٍ صيفي بالقرب من بحر البلطيق. وبين العمل والعزلة والصحبة، تدخل ناديا كما يدخل الخيال بما يجلبه من مشاعر إلى هذا المنزل الصيفي، لينتقل الفيلم بعدها إلى رصد تجربة الحب المضطرب بتعثراته، إلى أن تشتعل الغابات وتحاصرهم النيران، وتمطر السماء عليهم رمادا.وبفضل مهارته في بناء الاشتباك السردي والتصاعدي، ينقل بيتزولد المركزية الى شخصية ثانوية تغير من نسيج فيلمه تماما، وباعتبار أن ما هو رئيسي مُراقِب ومتأمل، فإنه من خلال ما هو ثانوي يبدأ بالتشريح الدقيق للشخصية الرئيسة.
وبكل براعة يأتي فيلم "سماء حمراء" ليكون عملا يتحرك وفق مفهوم السرد وقوته بمعناه الحرفي والمعنوي، لتكون الدراما عن التسامي من خصوصية الشيء إلى أبعد العوالم الخارجية.