يُكثر الفلاسفة المعاصرون من استعمال مفهومات الحفر والتفكيك والهدم والتقويض. فبعد أن سئموا الحديث مع الوضعيين، قديمهم وجديدهم، عن "نصل أوكام" Guillaume d'Ockham، وبعد أن ملّوا ترديد عبارة "سلاح النّقد"، مع الماركسيين، صاروا يتحدّثون مع النيتشويين عن "مطرقة الهدم"، فيردّدون أن التفكير هو "إعمال المطرقة، وأن الفكر "ضرب"للأوثان، وأن استراتيجيته لا تحيد عن تقويض هايدغر، وحفريات فوكو، وتفكيك دريدا، وأن أداته في ذلك كله هي المطرقة.
وعلى رغم ذلك، يبدو أن ربط التفكير بإعمال المطرقة، وتوظيف هذه الأداة، التي لا تعدم ضجيجا، في سياق الفكر أمر غير مستساغ، خصوصا وأننا تعوّدنا ربط التفكير بالهدوء والسّكينة والطمأنينة وغياب كل ضجيج. ناهيك أن لفظ المطرقة يتخذ اليوم دلالات متعدّدة، وأن أشكالها تتنوع، وهي تبدأ من مطرقة النجّار، إلى مطرقة النقّاش، إلى مطرقة البنّاء، إلى أن نصل إلى مطرقتنا الصناعية. وهذه ليست مما بإمكان الأيدي أن تحمله وتستعمله، فهي من تلك الآلات الضخمة التي يستخدمها مُرصّفو الطرقات في حفرهم وهدمهم وتقويضهم، وهي بطبيعة الحال أقوى هدما، وأشدّ ضجيجا، وأكثر اثارة للانتباه.
فضلا عن هذا التعدّد لمعاني المطرقة وهذا التنوّع لأشكالها، فإن الربط بين الفكر والمطرقة يتّخذ، حتى عند نيتشه، دلالات متنوّعة، وهو يدلّ، بحسب تعبير صاحب "أفول الأصنام" نفسه، على المطرقة التي تنصبّ على واقع "لتهدمه على طريقة البنّاء، أو لتفحصه على طريقة الطبيب، أو لتُعيد صياغته على طريقة النحّات".
حينما نربط الفكر بالمطرقة، والحالة هذه، فإنما لنجعله جسّا لنبض الأشياء، وإنصاتا لموسيقى العالم
نادرا ما ينصرف ذهننا، عند الاشارة الى "فلسفة المطرقة"هذه، الى مطرقة أخرى ربما يكون نيتشه، الموسيقيّ وعازف البيانو، هي التي يقصد بالضبط. لإدراك ذلك، ربما ينبغي أن نستبعد لغة الضّرب والهدم والبناء لنستعيض عنها بلغة علم الأصوات. آنئذ تغدو المطرقة، ليست أداة البنّاء، ولا حتى نصل أوكام، أو سلاح النقد، وإنما آلة قياس الذبذبات. هنا يغدو إعمال الفكر إصغاء لـ"صوت الوجود"الذي يشير اليه هايدغر.
تستعمل اللغة الفرنسية الكلمة ذاتها للدلالة على الإصغاء وعلى الفهم Entendre. بمقتضى ذلك يغدو إدراك المعاني إصغاء لـ "حفيف اللغة"الذي يتحدث عنه رولان بارت، وتغدو الأذن هي أداة الفكر، وليست اليد الهدامة. لن يعود "إعمال المطرقة"هدما لأوثان، ولن يظل الفكر ضجة وصخبا، وإنّما جس نبض الأشياء وإحداث اهتزازة بها لقياس ذبذباتها، والإصغاء لصوتها. إنه استخدام مغاير للمطرقة يحاكي ذاك الذي ينهجه طبيب الأعصاب كي يجسّ نبض الرّكبة ويقيس رد فعل الرِجل. إنه استخدام "يستفسر عن طريق المطرقة، ويصيخ السمع الى ما إذا كان هناك صوت يردّد صدى خواء أجوف"، أو "ما إذا كان يعكس امتلاءً شُحِن شحْنا". حينئذ تغدو المطرقة أقرب الى الشوكة الرنانة Diapason التي تُستخدم في علم الأصوات لدراسة الرّنين، وضبط الآلات الموسيقية.
حينما نربط الفكر بالمطرقة، والحالة هذه، فإنما لنجعله جسّا لنبض الأشياء، وإنصاتا لموسيقى العالم. آنئذ يغدو إعمال الفكر إصاخة السمع لنبضات الحياة. لعل هذا ما يجعل موضوعات الفلسفة المعاصرة أقرب إلى اليومي، وأشد التصاقا بالراهن، وأقرب إلى الخفّة والحركة، وأكثر انتباها لاستعارات اللغة ومجازاتها.
لا تخفى جشامة المهمة التي تكون ملقاة على الفكر والحالة هذه، وهي مهمة كان فيلسوف "الغابة السوداء" قد حدّدها في كونها تنقلنا من العزلة التي تطبع مدننا الكبرى، والتي تغلفها ثرثرة المتأدبين الكاذبة وصخبهم الذي يغرقنا في "الهُو المجهول"، نحو فضاءات تدفعنا لأن نعيش التفرّد الأصيل، وندخل في الحوار الواسع لا بعضنا مع بعض فحسب، وإنما مع "جوهر الأشياء كلها"، وهي تنقذنا من الاتصال الموهوم الذي تفرضه اليوم وسائل الاتصال، نحو التواصل الحقّ، فتأخذنا من فضاءات التمدّن بما يسودها من اتصالات مضجة لا تنقطع ما فتئت تغذيها وسائط الاتصال الجديدة، وما يعمّها من حوارات زائفة، وانسجام قطيعي، وعزلة حقيقية "نرتبط فيها بالجميع من غير أن نرتبط بأحد"، ونتصل كل لحظة من غير أن نتواصل، تنقلنا إلى فضاءات تسمح لنا بأن نصغي إلى نبضات الحياة، وذبذبة الأشياء، و"حفيف اللغة".
لن يكون من اليسير على هذه الفلسفة أن تصيخ السمع إلى موسيقى هذا العالم الذي يمتلئ صخبا وضجيجا
لن يكون من اليسير على هذه الفلسفة أن تصيخ السمع إلى موسيقى هذا العالم الذي يمتلئ صخبا وضجيجا، خصوصا وأن المطلوب منها هو أن تستحضر الصمت كمكوّن أساس لكل موسيقى، وسيكون عليها، من أجل ذلك، أن تستبعد كل مظاهر الصخب، فلا تقرن الفكر بالضرورة بالمواسم والمهرجانات، ولا بعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات، ولا برفع الشعارات وإصدار البيانات، ولا بتسليم الجوائز وإقامة الاحتفاءات، ولا بالتسابق نحو مكبّرات الإذاعات ومنابر التلفزيونات، ولا بالتّناحر من أجل أخذ الكلمة، والاستحواذ على المعاني، والاستئثار بحقّ التأويل وادّعاء امتلاك الحقيقة، ولا بكل ما من شأنه أن يعكر الإحساس بذبذبة الأشياء، و"حفيف اللغة".
ينعكس هذا بطبيعة الحال على شكل الكتابة المعاصرة وأسلوبها. ولعل ذلك هو ما جعل النص الكلاسيكي، مضمونا وشكلا، غير قادر على متابعة نبضات الحياة المعاصرة وجس نبضها، باعتبار أن الوقوف عند تلك النبضات يقتضي كتابة ليست أقل رصانة، وإنما أقل رزانة، وأقرب الى المرح الديونيزيسي. إنّها كتابة فلسفية قادرة على حدّ تعبير بلانشو على "أن تجمع بين الكلام والصمت، بين الجدّ والهزل، بين الحاجة الى التّعبير وتردّد فكر موزّع لا يقرّ له قرار، بين رغبة الفكر في أن يعمل وفق منهج ونظام، وبين نفوره من المنظومة والنسق". إنها كتابة تقوم أساسا على المفارقة، وتجمع في الآن نفسه بين الاثبات والتردّد، بين اليقين والارتياب، بين التنوع والوحدة، بين الافصاح والاضمار، بين الجدّ والسخرية، بين النظام والخلل، بين الانفتاح والانغلاق. لا يعني ذلك مطلقا أن مرمى هذه الكتابة الارتماء في تشتت مبعثر ينفي كل معقولية. فهي لا تتوخى إلغاء الحدّ وتفتيت الهوية. إن مرماها فحسب هو أن تجعلهما حركة وليس سكونا، خطّا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، تعددا وليس وحدة، اختلافا وليس تطابقا، نسيانا وليس ذاكرة.