الصين هي الدولة الوحيدة التي أدركت ذلك - وتصرفت بناء عليه - منذ سنوات. وعندما جمعت الصين قادة وممثّلي أكثر من 130 دولة في بكين في أكتوبر/تشرين الأول الماضي للاحتفال بالذكرى العاشرة لإطلاق مبادرة "الحزام والطريق" المميّزة، لقي ذلك استهجان العديد من القادة الغربيين - مثلما حدث تماماً قبل عشر سنوات - بوصفها خطة خفية لتقويض النظام الدولي الذي يقوده الغرب بوضع الصين في قلب شبكات التجارة العالمية.
غير أن مبادرة "الحزام والطريق" تمثّل، من الناحية العملية، ما يجب على كل الدول فعله لمصلحتها الوطنية: بناء أكبر عدد ممكن من المسارات لكي تلبّي الإمدادات الطلب، أكان ذلك وسيلة للتحوّط من الاضطرابات غير المتوقّعة أم أيضاً لتعزيز القدرة على التواصل والنفوذ.
أصبحت الحاجة إلى مثل هذا التحوّط واضحة تماماً في سنة 2021، عندما جنحت سفينة الحاويات الضخمة، "إيفرغيفن"، في قناة السويس، وشلّت تقريباً التجارة بين أوروبا وآسيا في حين كان العالم يسعى لإحياء التجارة وسط جائحة كوفيد-19. ومع أن معظم السفن العالقة عبرت بعد ذلك في غضون أسبوعين، فقد كان ذلك تجربة عصيبة لسلاسل الإمداد العالمية التي تسلّم الطلبات عند الحاجة وبموجبها يحتفظ المصنّعون والتجّار بمخزون منخفض من المكوّنات والسلع بناء على افتراض انسيابية التجارة. وأدّت هذه التجربة أيضاً إلى ارتفاع كبير لأسعار التأمين الأسبوعية على الشحنات المتأخّرة.
للمزيد يمكن الاطلاع على إنفوغراف: أزمة البحر الأحمر تغرق سفن الشحن بالتكاليف
ما من سبب يدعو لاحتجاز أكبر مناطق الاقتصاد العالمي - أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا - رهينة لمثل هذه الأحداث المتفرّقة التي لا يمكن التحكّم فيها، بصرف النظر عما إذا انكشف ضعف نقاط الاختناق البحرية بسبب إرهاب الحوثيين في البحر الأحمر، أو الحصار الروسي للحبوب على البحر الأسود، أو الجفاف في قناة بنما، أو نزاع محتمل في بحر الصين الجنوبي بالقرب من مضيق ملقا.
لا شكّ أن في إمكان السفن اختيار طريق ما قبل قناة السويس التي تدور حول رأس الرجاء الصالح في أفريقيا، وإضافة 10-14 يوماً إلى وقت الشحن العادي الذي يستغرق 20-30 يوماً. لكن بدلاً من ذلك، اتخذت الصين وأوروبا (وهما أكبر شريكين تجاريين) المسار الأكثر حكمة: تضاعف نقل السلع بالسكك الحديد عبر أوراسيا ليصل إلى 1000 قطار شحن شهرياً في أوائل سنة 2021، مما يوفّر قدراً أكبر من الموثوقية ودقّة المواعيد.
إن زيادة الطرق السريعة والسكك الحديد عبر أوراسيا، والموانئ على طول المحيطين الهندي والمتجمّد الشمالي، ضرورية لتوفير المرونة واستحداث مسارات بديلة للشحن وتجارة السلع العالمية التي يعتمد عليها الأداء السليم للاقتصاد العالمي. ومثل هذه الاستثمارات إجراءات استباقية فعّالة لمواجهة الصدمات التضخّمية التي تنجم عن الحمائية والجغرافيا السياسية وتغيّر المناخ.
يصعب القول إن "مبادرة الحزام والطريق" لم تحقّق تحوّلاً. فمنذ سنة 2013، تدفّق نحو ألف مليار دولار من رأس المال إلى الدول الأعضاء في المبادرة في مشاريع البناء والاستثمارات غير المالية.
البنية التحتية القوية ضرورية لكي تتعامل الدول النامية ذات الكثافة السكانية المرتفعة مع المطالب المحلية، وتحقّق آثاراً مضاعفة اقتصادية، وتبني القدرة على التواصل مع الاقتصاد العالمي. وقد استفادت دول أوروبية هامشية مثل المجر وصربيا من "مبادرة الحزام والطريق"، مع أن ذلك، كما هي الحال مع دول أخرى مثل زامبيا وسري لانكا، جاء على حساب ديون مفرطة وتقديم بعض المصالح السياسية للصين.
أما أوروبا الغربية، فقد انضمت إيطاليا في سنة 2019 وانسحبت في أواخر سنة 2023، مشيرة إلى استياء أوروبي من عدم اكتساب قدرة متبادلة كافية على الوصول إلى السوق الصينية في التجارة الثنائية الضخمة.