تشهد إدارة الرئيس الاميركي جو بايدن حاليا عملية إعادة تقييم كبيرة لسياستها في الشرق الأوسط، ما قد يؤدي إلى إصلاح جوهري لاستراتيجية واشنطن في معالجة التحديات التي لا تعد ولا تحصى التي تمثلها المنطقة.
قبل بضعة أسابيع فقط، وتماشيا مع مبادرة الرئيس بايدن لتقليل الوجود الأميركي، شارك ممثلو الولايات المتحدة بنشاط في مناقشات مع المسؤولين العراقيين لتحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية التي لا تزال متمركزة في العراق.
ومع ذلك، قد تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم موقفها العسكري في العراق بعد هجوم بطائرة دون طيار في بغداد أدى إلى مقتل أعضاء من ميليشيا "كتائب حزب الله" المدعومة من إيران، بما في ذلك ضابط رفيع المستوى، قيل إنه مسؤول عن تنفيذ الهجمات الأخيرة ضد القوات الأميركية.
وأثارت الغارة التي وقعت مساء الأربعاء إدانة شديدة من الحكومة العراقية، التي اتهمت الولايات المتحدة بتفاقم التوترات الثنائية ووصفت الغارة بأنها "اغتيال صارخ" يشكل انتهاكا للسيادة العراقية.
وجاء في بيان صادر عن مسؤول عراقي كبير أن "هذا المسار يدفع الحكومة العراقية إلى إنهاء مهمة هذا التحالف الذي أصبح عاملا لعدم الاستقرار أكثر من أي وقت مضى".
الهجوم على القاعدة الأردنية دفع إدارة بايدن إلى مراجعة نهجها تجاه إيران
وبغض النظر عما إذا كانت القوات الأميركية ستبقى في العراق، فمن الواضح أنه في أعقاب الهجوم الأخير الذي شنته ميليشيا مدعومة من إيران على قاعدة أميركية شمالي الأردن الشهر الماضي والذي أسفر عن مقتل ثلاثة عسكريين أميركيين، فإن واشنطن تقوم بإعادة التفكير بشكل جدي في مشاركتها طويلة المدى في المنطقة.
لم ينجم عن الهجوم على القاعدة الأردنية إطلاق الولايات المتحدة موجة من الهجمات ضد الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا فحسب، بل دفع إدارة بايدن إلى مراجعة نهجها تجاه إيران والتهديد الذي لا زالت تشكله على استقرار المنطقة.
بعيدا عن تقديم الدعم العسكري لـ"حماس" الذي مكنها من شن هجومها المدمر ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإن إيران تدعم أيضا عددا من الجماعات المسلحة الأخرى في المنطقة، مثل المتمردين الحوثيين في اليمن المسؤولين عن استهداف الشحن في البحر الأحمر. و"حزب الله" في جنوب لبنان، الذي يواصل تهديد حدود إسرائيل الشمالية.
ومع مشاركة البيت الأبيض العميقة في المفاوضات التي تهدف إلى ترتيب وقف إطلاق للنار في غزة لمعالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة التي تتكشف نتيجة الهجوم العسكري الإسرائيلي، يدرك المسؤولون الأميركيون أيضا الحاجة إلى احتواء إيران، ومنع طهران من التسبب في المزيد من الاضطرابات في المنطقة، وهو نهج سوف يتطلب من واشنطن الحفاظ على وجود عسكري كبير في المنطقة في المستقبل المنظور.
بدت إدارة بايدن مصممة على تقليص تدخلها في المنطقة قبل هجمات 7 أكتوبر. وكان الهدف السياسي الوحيد الذي سعت إليه والذي كان ذا أهمية كبيرة هو التزامها بإحياء الاتفاق النووي مع إيران.
فكرة دعم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تبدو سابقة لأوانها مع عدم ظهور أي علامة على انحسار الصراع بين إسرائيل و"حماس"
إن تصميم واشنطن على تقليص تدخلها العسكري في الشرق الأوسط يعني أن المسؤولين كانوا على استعداد لبدء مفاوضات مع العراقيين حول سحب القوات الأميركية حتى بعد وقوع هجمات 7 أكتوبر.
في الوقت الحالي، ما زال هناك نحو 2500 جندي أميركي ينتشرون في العراق كجزء من التحالف الذي تشكل عام 2014 لمساعدة الحكومة العراقية على محاربة تنظيم "داعش". ومنذ هزيمة قوات "داعش" في العراق، دعا المسؤولون إلى انسحاب قوات التحالف، خاصة بعد الغارة الجوية الأميركية في يناير/كانون الثاني 2020 التي أدت إلى مقتل قائد "فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، ونائب زعيم ميليشيا "الحشد الشعبي" في العراق أبو مهدي المهندس، خارج مطار بغداد.
في الوقت الحالي، وبالحكم على الاهتمام المتجدد الذي تبديه إدارة بايدن بإحياء العلاقات مع الحلفاء الرئيسين في المنطقة، يبدو كما لو أن واشنطن تخطط للحفاظ على وجودها، بصرف النظر عما إذا كانت القوات الأميركية باقية في العراق بشكل فعلي.
وفيما يسميه بعض المحللين الأميركيين "معايير بايدن" الجديدة في الشرق الأوسط، يدرس المسؤولون الأميركيون الآن خيارات معالجة الحرب متعددة الجبهات التي تطورت في المنطقة والتي تشمل إسرائيل وإيران وغزة.
ووفقا للكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" توماس فريدمان، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع إدارة بايدن، فإن النهج الأميركي الجديد ستكون له ثلاثة عناصر رئيسة.
يتمثل التحول الرئيس الأول في نهج واشنطن في تبني مواقف أكثر حزما بشأن قضية إيران، بما في ذلك الانتقام العسكري القوي إذا واصل وكلاء إيران هجماتهم ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
وهناك أيضا عنصر آخر بالغ الأهمية يتمثل في إطلاق مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة للترويج لإقامة دولة فلسطينية، تتضمن شكلا من أشكال الاعتراف الأميركي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن فكرة دعم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في حين لا يظهر الصراع في غزة بين إسرائيل و"حماس" أي علامة على الانحسار، قد تبدو سابقة لأوانها. فمثلا، ظهور "حماس" كقائد لكيان فلسطيني جديد بمجرد انتهاء القتال سيكون غير مستساغ في نظر كثيرين بسبب تورطها في هجمات السابع من أكتوبر.
يزعم فريدمان أن واشنطن تنظر جديا إلى توسيع تحالفها الأمني مع المملكة العربية السعودية
لكن واشنطن تعتقد بوضوح أنه من أجل الضغط على حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لحملها على قبول فكرة الدولة الفلسطينية، فإن إعادة التأكيد على التزام واشنطن بحل الدولتين هو أمر بالغ الأهمية.
وبالإضافة إلى ذلك، يزعم فريدمان أن واشنطن تنظر جديا إلى توسيع تحالفها الأمني مع المملكة العربية السعودية بشكل كبير، وهو ما قد يشمل أيضا التطبيع السعودي للعلاقات مع إسرائيل، وهي مبادرة دبلوماسية كانت قائمة بالفعل قبل هجمات 7 أكتوبر.
من المؤكد أن تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية سيكون بمثابة تحول كامل في نهج إدارة بايدن، عندما بدا أن البيت الأبيض ليس لديه اهتمام كبير بالحفاظ على العلاقات مع الحلفاء الرئيسين في المنطقة.
لكن مزيجا من الوضع الأمني المتدهور في المنطقة، والذي نتج معظمه عن الأنشطة العدائية للميليشيات المدعومة من إيران، مع حالة الطوارئ التي اتخذتها كل من روسيا والصين لتحدي هيمنة واشنطن التقليدية في المنطقة، قد احتاج من البيت الأبيض أن يقدم بوضوح على إعادة تفكير جذرية في أهداف سياسته.
إن استنتاجات البيت الأبيض تلك لديها القدرة على إعادة تحديد نهج واشنطن تجاه المنطقة لسنوات عديدة قادمة.