كليلة ودمنة أفريقية

كليلة ودمنة أفريقية

كلما تجددت نسخة من كأس أفريقيا لكرة القدم، بالرغم من هامشيتها، تطفو إلى السطح خصوصيتها. وفي مقدمة ما يلفت المتتبع والمولع على حدّ سواء، هو الاستعارات الحيوانية لمعظم المنتخبات التي تشحذها كرموز معادلة لروحها التنافسية، وهويتها في معترك اللعبة، وهذا ينسحب أيضا على أسلوب لعبها وكذا تفرّد استقلاليتها الرياضيّة ونمط أدائها الخاص بها. رمزية الحيوانات التي تتماهى مع شعارات هذه المنتخبات، لا تقف عند حدود شحناتها الدلالية، كموروث طبيعي، بيئي، وثقافي لهذه البلدان التي تتمثلها، بل إنها تغدو على نحو مزدوج في معترك اللعبة، لعبتين: لعبة فعليّة تؤديها كائنات إنسانية، أمام حماس جمهور لا تنقطع احتفاليته على طول التوقيت المرسوم لكل مباراة، ولعبة تخييلية تؤديها كائنات حيوانية هي محض استعارات فخرية، تضاعف من احتدام المبارزة وشراستها كما لو يتعلّق الأمر بحرب أو معركة، ومن جهة أخرى تضيف للعبة جمالية مؤسسة على غرابة، لا من حيث التنوع السحري للحيوانات وكأننا في غابة بصدد طقس صيدٍ، ولكن من حيث تموج ألوانها أيضا، زد على ذلك هذا التزاوج الحيواني الإنساني بشكل عجائبي. فرمز الحيوان هنا يبلس القيمة الإنسانية، وفي معترك اللعبة يصعب الفصل بينهما، لأن الوعي المسبق للمشاهد القادم إلى الملعب مشحون بهذه الغرابة الاستعارية حدّ تصديق تمثلاتها وإن كانت محض شعارات.

وتتقاسم رمزية الأسد في هذه النسخة الدائرة في ساحل العاج، ثلاثة منتخبات، أوّلها منتخب السينغال الموسوم بأسود التيرانغا وثانيها منتخب المغرب الموسوم بأسود الأطلس، وثالثها منتخب الكاميرون الموسوم بالأسود غير المروّضة. وتتقاسم رمزية النسر ثلاثة منتخبات أيضا، منتخب تونس الموسوم بنسور قرطاج ومنتخب مالي الموسوم بالنسور ومنتخب نيجيريا الموسوم بالنسور الممتازة. وأما رمزية الفيل فيتقاسمه منتخب البلد المنظم ساحل العاج الموسوم بالفيلة، إلى جانب غينيا الموسوم منتخبها بالفيل الوطني. وفي الموروث الحيواني البحري، تتفرّد رأس الرجاء الأخضر برمز القروش الزرقاء. ثمّ رمز الكلاب البرية الذي يختصّ به منتخب غينيا بيساو. فضلا عن رمز أفاعي المامبا الذي يتخذه منتخب الموزمبيق لقبا. وكذا رمز العقارب الذي يتمثّل منتخب غامبيا. بينما اختار منتخب بوركينافاصو رمز الخيول. وأمّا الغزلان السوداء فرمز اختاره منتخب أنغولا. ويليهم الفهود كرمز لمنتخب الكونغو الديمقراطية.

رمز الحيوان هنا يبلس القيمة الإنسانية، وفي معترك اللعبة يصعب الفصل بينهما

 

هكذا تتدرّج غابة الرموز واشتباكاتها في لعبة ملحمية وتتأرجح بين شراسة الأسد وجذريّة بطشه، وقوة النسر وحذاقة تبصره وانقضاضه، وشجاعة الفيل وصلابة ذاكرته، وفتك القروش، وتلاحم الكلاب البرية الذي يجعل من اتحادها سلاحا لا يُقهر، ولسعة الأفاعي القاتلة، ومثلها لسعة العقارب المميتة، وسرعة الخيول، فخامة جمالها وعراقة نبلها، وأناقة الغزلان وإيقاع ركضها الخارق، الذي لا يضاهيه سوى إيقاع ركض الفهود الرهيبة صيدا ورشاقة.

هذا بعضٌ من محمولات رمزيتها المشحوذة، بينما يظلّ مصدرها هو الموروث الطبيعي لكلّ بلد، سيقت من الغابة أو الصحراء أو البحر إلى ثقافة اللعبة، كي تضفي على فن كرة القدم قيمة غرائبية، مبتدؤها التماهي بين انتماء المنتخب المتباري لتاريخه وبين انتمائه البيئي المختلف.

لعلها كوميديا حيوانية تواطأت على اختلاقها مخيلة أفريقية مسكونة بهواجس أدغالها، غير منفصلة عن نمط وجودها البيئي، مما يسبغ على اللعبة متعة موازية، لا ترتكن إلى المألوف من تقاليد الكرة، بل تنزاح بها إلى احتفالية غير اعتيادية، تتخلق عن احتدام تنافسيتها فرجة خاصة جدّا.

مع أنّ الأدب الأفريقي حافل بتخييل الحيوانات، وكذا أساطير القارة السمراء عن بكرة أبيها، إلا أن معرفتنا به تظلّ محدودة

 

ومما يضاعف من جمالية هذه الفرجة، أن تتغذى هذه الرموز الحيوانية بما هو ثقافي وفني أيضا، فلكلّ منتخب رقصة احتفالية خاصة به، مصدرها الموروث الموسيقي المحلّي، كرقصة "بات بات" التي يؤديها أسود منتخب السنغال وهي عريقة لشعب "جولا"، ورقصة نسور نيجيريا المشتقة من قبيلة اليوربا وتدعى "الشاكو شاكو"، ورقصة فيلة ساحل العاج المعروفة باسم "كوبيه ديكاليه"، ورقصة "ميمس" التي يؤديها نسور مالي ذات العلاقة بأثر حروب القبائل المالية، ورقصة ماكوسا التي يؤديها أسود الكاميرون، وقد اشتهر بها لاعبهم المرموق روجيه ميلا، ورقصة روزالينا التي تؤديها فهود الكونغو الديمقراطية.

هكذا يتعالق الأسطوري بالفلكوري، الثقافي بالطبيعي، السحري بالواقعي، الإنساني بالحيواني، الرمزي باليومي، في كأس يتماوج صخب إيقاعها فيما رواء الحدود.

هي كأس طاعنة في الرقص، ولا تقتصر على احتفالية رمزية الحيوان، إذ الرقص في أفريقيا السمراء أسلوب حياة قبل أن يكون أسلوب فن، وهو قوة جسدية تعبيرية تتفجر في طقوس الفرح كما في طقوس العزاء، في الغضب والحرب والعنف والموت، كما في الأعراس والاحتفالات.

مع أنّ الأدب الأفريقي حافل بتخييل الحيوانات، وكذا أساطير القارة السمراء عن بكرة أبيها، إلا أن معرفتنا به تظلّ محدودة، أمام تقصير الترجمة بالنظر إلى أنّ معظمه مكتوب بلغات محلية، ولعلّ ما يهاجس المتتبّع والمولع بفرجة كأس أفريقيا - كلّما تجددت إحدى نسخها بصدد رموز حيواناتها- هو استحضار تخييل الحيوان في أشهر حكايات العالم المعروفة بكليلة ودمنة، وإن كانت هذه الأخيرة قصصا تجري على ألسنة الحيوانات بغرض تقديم عبرة أو موعظة، فكليلة ودمنة الأفريقية قصص هي الأخرى، لكن أداتها الفنية ليست اللغة والكتابة، بل أداتها هي بلاغة الرموز والرقص.

font change