أعلنت منظمة "أطباء بلا حدود" في تقييمها للوضع الإنساني لمنطقة معسكر زمزم في ولاية شمال دارفور، أن سوء التغذية قد تجاوز كل عتبات الطوارئ. وأوردت المنظمة في تقريرها الصادر يوم 5 فبراير/شباط 2024، أن معدل الوفيات اليومية الناتجة عن الجوع وسوء التغذية وصل إلى 2.5 من كل عشرة آلاف شخص، وهو أكثر من ضعف المعدل المطلوب لإعلان حالة الطوارئ.
وجاء في التقرير أن ما يقرب من 40 في المئة من بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ستة أشهر وعامين يعانون من سوء التغذية. وقالت كلير نيكوليت رئيسة الاستجابة لحالات الطوارئ في المنظمة أن التقديرات تشير إلى أن طفلا واحدا يموت كل ساعتين في المعسكر بسبب سوء التغذية. وتوجد كذلك نسبة مماثلة (40 في المئة) من النساء الحوامل والمرضعات يعانين من سوء التغذية- وهو مؤشر آخر على السوء الشديد للوضع.
وأشارت منظمة "أطباء بلا حدود" إلى أن هناك حاجة حيوية للتحرك بواسطة منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لإنقاذ الوضع، مشيرة إلى أن هذه المنظمات قد احتفظت بوجود محدود في شمال دارفور منذ إجلائها بعد اندلاع الحرب في أبريل/نيسان الماضي. واعتبرت "أطباء بلا حدود" أن مجالات توزيع الأغذية والنقد والرعاية الصحية وتوفير المياه النظيفة والصرف الصحي هي مجالات ذات أولوية قصوى.
ووصفت "أطباء بلا حدود" الوضع المعيشي في ولاية شمال دارفور بالمزري. وهي الولاية الوحيدة من ولايات دارفور الخمس التي لا تسيطر عليها "قوات الدعم السريع" بشكل كامل، والتي لا تزال فيها إمكانية لوصول محدود للإغاثة بواسطة المنظمات الإنسانية. أما في ولايات دارفور الأربع الأخرى، فإن سيطرة ميليشيا "الدعم السريع"، والوضع الأمني المترتب على ذلك، يحدان من إمكانية الوصول إلى أرقام دقيقة أو تقديرية بخصوص الظروف الإنسانية في تلك المناطق.
لم تقتصر مظاهر الكارثة الإنسانية والمجاعة على دارفور وولاية الجزيرة فحسب، بل امتدت مظاهرها إلى السودان كله
على سبيل المثال، ورد في الصفحة 21 من تقرير لجنة الخبراء الخاصة بدارفور والذي خرج إلى العلن في يناير/كانون الثاني الماضي، أنه في ولاية غرب دارفور التي تسيطر عليها "قوات الدعم السريع" بشكل كامل والتي شهدت مجازر إثنية واسعة النطاق ضد مجتمع المساليت (إحدى القبائل الأفريقية في دارفور)، جاء توزيع المساعدات الإنسانية بشكل محدود وانتقائي لعناصر المجتمعات العربية هناك.
لا يختلف هذا التعامل عما قامت به "قوات الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، حين نهبت مخازن "صندوق الغذاء العالمي" في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، وسرقت مخزون الطعام الموجود فيه والذي كان يكفي لتغطية الحاجة الغذائية لنحو مليون ونصف المليون مواطن لمدة شهر، بالإضافة إلى توفير المواد اللازمة لمعالجة سوء التغذية لأكثر من 20 ألفا من الأطفال والنساء الحوامل والأمهات المرضعات بحسب بيان الصندوق. وحدث هذا النهب لمخازن الصندوق رغم إعلام "قوات الدعم السريع" بإحداثيات موقعه فور بدء هجومها على ولاية الجزيرة وتلقي تطمينات من قيادتها بعدم التعرض له.
أدى كل ذلك إلى إيقاف أنشطة الصندوق للإغاثة الإنسانية في المنطقة والتي كان من المخطط لها أن توفر المعينات الغذائية لما لا يقل عن 800 ألف مواطن شهريا. كما أدى هجوم "قوات الدعم السريع" واحتلالها لولاية الجزيرة إلى تعطيل زراعة مليون فدان من المحاصيل الزراعية، وإلى تدمير ما تبقى من البنية التحتية للصناعات الغذائية التي اتخذت من مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة مستقرا لها.
لم تقتصر مظاهر الكارثة الإنسانية والمجاعة على دارفور وولاية الجزيرة فحسب، بل امتدت مظاهرها على المستوى القومي. فمنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، تداخلت تركيبة مميتة من عوامل النزوح والتشرد وآثار الاقتتال المباشرة وشح المداخيل الزراعية والدمار الذي حاق بالبنية التحتية للصناعات الغذائية في السودان، لتضع أكثر من 25 مليون سوداني (حوالي 60 في المئة من التعداد الكلي للمواطنين) بينهم 14 مليون طفل في حاجة مباشرة للمساعدات الإنسانية، وحوالي 19.9 مليون سوداني (49.75 في المئة من التعداد الكلي للمواطنين) في حاجة ماسة للعون الغذائي، بينما 17.7 مليون شخص منهم في حالة العوز الغذائي الحاد.
وضربت حالة المجاعة كل أنحاء البلاد بنسب مختلفة، حيث بلغت نسبة المدنيين المتأثرين بالعوز الغذائي الحاد من العدد الكلي للسكان 60 في المئة في ولاية غرب دارفور، و55 في المئة في العاصمة الخرطوم، و48 في المئة في ولاية جنوب كردفان. بل إنه حتى المناطق التي لم تصلها الحرب مثل ولاية كسلا بلغت فيها نسبة المواطنين المتأثرين بالعوز الغذائي 43 في المئة، وكذلك بلغت هذه النسبة في الولايات الزراعية مثل ولاية الجزيرة 31 في المئة. والجدير بالذكر أن حد إعلان المجاعة هو عند نسبة 20 في المئة من السكان. وتناقصت مساحة الأراضي المزروعة هذا العام إلى 37 في المئة بالمقارنة مع الأعوام السابقة، فيما أدى تعطيل سلاسل الإمداد بالمدخلات الزراعية إلى نقصان المساحة المزروعة بالقمح بنسبة 70 في المئة على الأقل. وبلغ عدد النازحين واللاجئين داخل وخارج البلاد 10.7 مليون مواطن.
نيران الرصاص وعنف الحرب ليسا فقط ما يقتل الشعب السوداني في هذه الأوقات، بل أيضا انتشار الأمراض والمجاعة
تضافرت كل هذه العوامل لتجعل السودان أكبر كارثة إنسانية معاصرة، وفي غضون عشرة أشهر من اندلاع الحرب الأهلية والقتال في السودان، أصبح عدد الأشخاص الذين يعيشون في مرحلة الطوارئ لانعدام الأمن الغذائي أكبر من عدد الأشخاص في أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وثلاثة أضعاف العدد في فلسطين وأربعة أضعاف العدد في اليمن.
إزاء هذا الوضع الكارثي، أعلنت الأمم المتحدة في بيان صدر يوم 7 فبراير/شباط الجاري أن "الحاجة المالية المقدرة لمواجهة الاحتياجات الإنسانية العاجلة في السودان بلغت 4.1 مليار دولار"، ولكن لم يتوفر من تمويلها سوى 3.3 في المئة حتى فبراير الجاري.
لذلك فإن تأخير إعلان حالة المجاعة من المستوى الخامس (وهو ما يصطلح على تسميته بالمستوى الكارثي) في السودان، بحسب الأرقام السابق ذكرها حتى الآن، هو أمر معيب من المجتمع الدولي وغير مقبول.
ووسط انشغال العالم بالكوارث الإنسانية المتعددة والتي تتزايد باستمرار، يتخوف العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية وكل مشفق على حال السودان والسودانيين من أن تصبح المأساة والمعاناة المتزايدة طي النسيان.
إن نيران الرصاص وعنف الحرب ليسا فقط ما يقتل الشعب السوداني في هذه الأوقات، بل أيضا انتشار الأمراض والمجاعة، فضلا عن لامبالاة العالم المتزايدة تجاه هذه المعاناة المتفاقمة التي تساهم في حصد أرواح السودانيين.