مع قرب دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الخامس، ومع رصد تحركات الشارع الأميركي، تأييدا للقضية الفلسطينية وتضامنا مع غزة، يمكن القول إن اختلافا؛ وليس خلافا، سياسيا جديا بدأ يبرز في الولايات المتحدة، من قبل شريحة واسعة من الشعب الأميركي، اعتراضا على السياسات الأميركية المنحازة لإسرائيل، يُذكر بالتباين الذي حصل، بين الجمهور والسلطة، حول جدوى حرب فيتنام، ويتقدم على الموقف من غزو العراق وأفغانستان، رغم أن الولايات المتحدة في الحروب الثلاث، كانت أحد طرفي المواجهة، أما في حرب غزة فهي ليست كذلك، لكن هذا لا يمنع أنها طرف أساسي فيها، من خلال دعمها المفتوح لإسرائيل على المستويات كافة، وهذا ما يدركه الشارع الأميركي المعترض، لذلك يحمل حكومته مسؤولية مطلقة عما يجري في غزة، ويحاول الضغط باتجاه الحد من الدعم ووقف الحرب وإيجاد حل عادل للشعب الفلسطيني.
وطوال هذه المدة، تحولت عدة جامعات أميركية، مثل هارفارد وبنسلفانيا وكولومبيا، والمدن الأميركية الكبرى، على رأسها واشنطن ونيويورك، إلى ساحات للتظاهر والاحتجاج، ضد السياسات الداعمة لإسرائيل، وضد إسرائيل بنفسها، وصار أمرا عاديا فيها، سماع الهتافات المطالبة بتحرير فلسطين وتحقيق العدالة لشعبها وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى الاتهامات، التي تُدين الحكومة الأميركية لموافقتها تل أبيب، على حربها التدميرية في غزة وقتل أهلها بحجة القضاء على "حماس".
وسعى الشباب الأميركي، المنظم لهذه التحركات، إضافة إلى الحملات الافتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى توعية الرأى العام تجاه حجم المأساة الإنسانية، التي تسببت بها الحرب في غزة، وحشد الرأي العام للضغط من أجل انتزاع قرار بوقف دائم لإطلاق النار.
المتعاطفون مع غزة يتحضرون للعب دور حاسم في تحديد هوية الرئيس الأميركي المقبل
وفي استطلاع للرأي أجراه معهد "هاريس- هارفارد" للدراسات السياسية الأميركية، أظهرت النتائج أن ما نسبته 51 في المئة من الشباب الأميركي، ما بين 18 و24 عاما، يرى أن حل القضية الفلسطينية، يكون بـ"إنهاء احتلال إسرائيل لغزة وتسليمها لحماس والفلسطينيين"، بينما أيد 32 في المئة منهم "حل الدولتين"، ورأى 17 في المئة فقط، أن الحل في "توزيع الفلسطينيين على الدول العربية". وفي سؤال آخر ربط 60 في المئة من الفئة المستهدفة عملية 7 أكتوبر بـ"مظلومية الشعب الفلسطيني"، وهو الموقف الذي يتبناه 27 في المئة فقط من الأميركيين.
على المقلب الآخر، تصف الجمعيات والمنظمات الصهيونية الناشطة في الولايات المتحدة، على المستويين السياسي والاجتماعي، الحراك السياسي المتصاعد لمؤيدي القضية الفلسطينية والمعترضين على حرب غزة، في الجامعات وخارجها، بمعاداة السامية، وتحذر من مغبة أن تؤثر دعواتهم على استمرارية الدعم الأميركي لإسرائيل.
فيما ترى الصحافة الأميركية أن الأصوات المتعاطفة مع غزة من الشريحة الشبابية، تشكل من ناحية، كتلة ناخبة لا يُستهان بها، ومن ناحية أخرى، تطرح أسئلة سياسية غير مسبوقة في الولايات المتحدة، منها: ما إذا كان ضغطها سيُحدث تغييرا ولو بسيطا، في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل؟ والسؤال الآخر والأهم، ما إذا كان ذلك، سيُؤدي إلى هزيمة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
ومن الواضح أن هذا الحراك، قد بدأ يُعكر صفو الحسابات الانتخابية للحزب الديمقراطي، ويظهر أنه يتحضر للعب دور حاسم في تحديد هوية الرئيس الأميركي المقبل، فإذا اختار مقاطعة الانتخابات أو ذهب في خياره إلى المرشح الجمهوري، سيتسبب في الحالين بخسارة الرئيس جو بايدن أمام منافسه في الحزب الجمهوري دونالد ترمب، رغم أن سياسة الأخير لا تختلف كثيرا عن الأول، بل يتفوق عليه لناحية دعم إسرائيل، إلا أنه لن يقدم مكافأة لبايدن بإعادة انتخابه، بينما هو؛ في نظره، يستحق المحاسبة.
في هذه الأثناء، أظهرت استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات، تقدم ترمب على بايدن، في عدد من الولايات الرئيسة مثل ميشيغان.
ميشيل أوباما تملك المقدرة على ترميم صورة الحزب الديمقراطي. فهي سمراء وشابة وشخصية شعبية وزوجة رئيس محبوب
لكن الديمقراطيين لن يسمحوا لحفنة من المتظاهرين، بإجبارهم على مغادرة البيت الأبيض، وتشريع أبوابه لدخول خصمهم، لذلك اضطروا للبحث عن مرشح آخر يملك حظوظا مؤكدة في الفوز، وشعبية أكثر من بايدن، فوقع اختيارهم على ميشيل أوباما زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ومنذ أكثر من أسبوعين بدأت وسائل إعلام أميركية وعالمية، تتحدث عن احتمال ترشيحها من قبل الحزب الديمقراطي، الذي بدأت دوائره في الترويج لها كشخصية سياسية فذة، وكتبت صحيفة "نيويورك بوست" حول هذا الموضوع: "إذا لم يتحسن وضع بايدن في استطلاعات الرأي، فمن المحتمل أن يستبدله الحزب الديمقراطي بـميشيل أوباما".
ومن المؤكد أن ميشيل أوباما تملك المقدرة على ترميم صورة الحزب الديمقراطي. فهي، من جهة، سمراء وشابة وشخصية شعبية وزوجة رئيس محبوب. ومن جهة أخرى، من المتوقع أنها ستتمكن من استقطاب الفئة الشبابية المعترضة على السياسات الأميركية الداعمة لإسرائيل والظالمة لفلسطين، وجرها إلى صناديق الاقتراع، من دون أن تكون ملزمة بالاستجابة لأي من مطالبها السياسية. ومن الممكن أن يحقق بايدن فوزا ضعيفا على شاكلته، لكن يضمن له التجديد لولاية ثانية. ومن المحتمل، برغم كل هذه التكتيكات، أن يزيح ترمب الجميع ويفوز بالرئاسة، ويدخل إلى البيت الأبيض مرة ثانية. لكن ما هو غير متوقع ومفاجئ وغريب وحتى سيريالي، أن الشريحة الشبابية التي أوجدت هذا الإرباك، دفعت غزة، من حيث لا تدري، لأن تكون القوة التي تتحكم في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، سواء بالقلق الذي يعيشه بايدن، أو بلجوء الحزب الديمقراطي إلى عائلة أوباما، أو بثقة ترمب في عودته، والتي ستقود السباق المحموم بين الحزبين الجبارين نحو البيت الأبيض، والتي ستكتب اسم الرئيس السابع والأربعين، في قائمة رؤساء الولايات المتحدة الأميركية.