لا جديد هذا العام في الخلاف المتكرر كل عام في مواقع التواصل الاجتماعي حول ما حدث في 25 يناير/كانون الثاني 2011 إلا اختلاطه بجدل مواز بشأن ما يُدعى أنها ثروة الرئيس الراحل حسني مبارك ونجله علاء.
فأما عما ادُعي عن هذه الثروة فلم يُثبت بدليل قاطع حتى اليوم، سواء في صورة توثيق أو في شكل حكم قضائي، بل العكس إذ بُرئ الرئيس الراحل في القضية التي اتُهم فيها.
وأما عن 25 يناير وأسئلتها، وفي مقدمتها سؤال هل كانت ثورة أم مؤامرة، فأي جواب عنه الآن إنما يعبر عن رأي المُجيب وخلفيته ومصالحه، فيما تبقى الحقيقة في بطن التاريخ إلى أن يبوح بها في يوم قد لا يكون قريبا.
ولكن السؤال الذي يصح أن يُسأل الآن بعد 13 عاما، وهي فترة كافية للفرز والتقييم، فهو: هل كانت هناك حاجة في 2011 إلى تغيير جذري "راديكالي" يُحدث قطيعة مع ما قبله، دون أن يعرف أحد ما الذي سيكون بعده، وفي أي اتجاه سيسير بلد كبير مثل مصر أو يؤخذ؟
القدر المتيقن الذي قد لا يُختلف عليه كثيرا هو أن أي سعي إلى تغيير جذري في غياب رؤية واضحة لما بعده، وبرنامج مُحدَّد للانتقال إلى وضع جديد، ينطوي على مخاطرة، وربما مغامرة. وقد يكون الذهاب إلى مجهول على هذا النحو مقامرة خطيرة حين يعرف الراغبون في التغيير بالكاد ما لا يريدونه، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون على وجه التحديد، وخاصة، حين تكون الخلافات بينهم واسعة على نحو يصعب معه بناء توافق وطني عام لا ينجح أي تغيير من دونه، وربما يؤدي غيابه إلى ما لا تُحمد عقباه. وهذا ما حدث عقب تنحي مبارك عن السلطة في 11 فبراير/شباط 2011، بعد أن رفض استخدام القوة ضد المُحتجين المطالبين بالتغيير، وجنَّب مصر شرور الصدام العنيف. لم تمض أيام حتى انقلب مشهد التآزر بين دعاة التغيير، خلال وجودهم في ميدان التحرير بين 28 يناير و11 فبراير، وتحول إلى تنافر فتخاصم حمل في طياته خطر التقاتُل. ولم تفلح محاولات التقريب بينهم وبناء ائتلاف واسع لتحقيق عبور سلمي حين كان الخطر يطل برأسه، وعندما صارت ملامحه واضحة.
ما حدث في 2011 لم يكن ضروريا. فالحاجة إلى تغيير قسري تنتفي، أو تقل، ما دام الطريق إلى تغيير عن طريق الإصلاح التدريجي لم يُغلق
وقد حدث مثل ذلك، وأكثر منه أحيانا، في معظم حالات التغيير الراديكالي منذ الثورة الفرنسية الكبرى 1789. تختلف تفاصيل المشهد عقب كل تغيير جذري يهدف إلى إسقاط نظام حكم في غياب توافق الراغبين في ذلك على نوع النظام الذي يليه وكيفية بنائه، ودون حساب الصعوبات والعقبات التي سيواجهونها. ولكن الاضطراب هو القاسم المشترك بين معظم محاولات هذا التغيير في أنحاء العالم لأكثر من قرنين وربع القرن. وهذا طبيعي ما دامت صورة اليوم التالي ضبابية غائمة، ومحصورة غالبا في شعارات جميلة لا تُسمن ولا تُغني من جوع مثل التي رُفعت في 2011 (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).
وما غياب الرؤية وقت الدعوة إلى تغيير جذري، ثم العجز عن تحديد الاتجاه خلال العمل عليه، والفشل في بناء توافق وطني ولو مؤقت، إلا دليل على مزيجٍ من عدم النضج السياسي وضعف الوعي العام. ويعني هذا أن الوضع لم يكن ناضجا لتغيير كبير ناهيك عن أن يكون جذريا، وأن الوعي العام كان أدنى من المستوى اللازم لاستيعاب صدمات تغيير من هذا النوع.
ودلالة ذلك في حالة مصر 2011 أن ما حدث لم يكن ضروريا. فالحاجة إلى تغيير قسري تنتفي، أو تقل، ما دام الطريق إلى تغيير طبيعي عن طريق الإصلاح التدريجي لم يُغلق. ورغم أن الطريقة التي أُجريت بها الانتخابات البرلمانية في 2010 أثارت غضبا في أوساط المعارضة المصرية، فهي لم تكتب كلمة النهاية في مسار الإصلاح التدريجي الذي كان قد دخل مرحلة واعدة في الفترة التي سبقتها، إذ فُتحت نوافذ أوسع في المجال العام سياسيا وإعلاميا وانتخابيا. وما دام طريق الإصلاح مفتوحا تنتفي موضوعيا الحاجة إلى طريق التغيير الجذري القسري. الإصلاح يضمن انتقالا، سلسا وآمنا، ومعروفة وجهته، مهما يكن بطيئا أو متعثرا، وحتى إذا بدا في لحظة أنه يُعاق كما حدث في انتخابات 2010 المصرية مثلا. فكل عائق في مثل هذه الحالة هو مؤقت وقابل للتجاوز ما دام الطريق إلى الإصلاح مفتوحا. وإذا ضاق الباب المؤدي إلى الإصلاح في لحظة أو أخرى، فهو لا يلبث أن يتسع بعدها. وهذه سمة الإصلاح التدريجي. خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف، أو العكس، بفعل اختلاف المصالح والرؤى والأولويات، طالما أنه لا يوجد عائق جوهري يمكن أن يُغلق الطريق إليه.
طريق الإصلاح بطيء بطبيعته ولكنه مضمون وآمن، بعكس طريق التغيير الجذري
ولا يوجد دليل موثوق على ما أُطلق عليه إعداد لتوريث الحكم واعتُبر عائقا يوصد طريق الإصلاح. لم تكن هناك تحركات يمكن ملاحظتها تمهيدا لهذا التوريث، ولا يزعم أحد ممن تحدثوا عنه أنه اكتشف إجراء أو آخر يدل عليه. فقد بقي الحديث عنه تعبويا منذ أن رفعت حركة "كفاية" عام 2004 شعار "لا للتمديد".. "ولا للتوريث". وكانت السنوات السبع حتى 2011 كافية جدا لظهور، أو إظهار، ما يدل على ما قيل إنه إعدادٌ لترشيح جمال مبارك بدل والده رئيسا للجمهورية. العكس هو الأقرب إلى الصحة، إذ كان هناك ما يمكن أن يُستنتج منه عدم استعداد بعض المؤسسات الأساسية في الدولة قبول انتقال السلطة إلى نجل مبارك بافتراض أن الأمر كان مطروحا.
ولم يكن نشاطه في الحزب الوطني، الذي كان يوصف بأنه الحاكم، يعني شيئا في هذا المجال. كان دور هذا الحزب مُحدَّدا ومحدودا. لم يأت منه رئيس وزراء واحد طول 33 عاما، فكيف يُتصور أن يخرج رئيس الجمهورية من صفوفه؟
ومع ذلك، انتشرت قصة التوريث في أوساط قطاع يُعتد به من المعارضة المصرية، وغذَّتها صحف مستقلة كان إصدارها دليلا على أن الإصلاح التدريجي يمضي في طريقه. وربط بعض من تبنوا تلك القصة أو صدَّقوها بين بطء مسار الإصلاح وقوة نفوذ من اتُهموا بأنهم كانوا يُعدون للتوريث، دون أي جواب عن أسئلة بديهية في مثل هذه الحالة مثل: كيف يحدث هذا الإعداد للتوريث، وبأية طريقة وأي طرق، وما الذي يدل عليه في الواقع، وهل يُعقل أن يبقى محجوبا ومخفيا عن الأنظار لسنوات طويلة؟
والحال أن طريق الإصلاح بطيء بطبيعته ولكنه مضمون وآمن، بعكس طريق التغيير الجذري أو القسري ويصح هذا في حالة مصر، كما في غيرها مما أُطلق عليها بلدان "الربيع العربي" التي كانت فيها فرصة لمثل هذا الإصلاح.