"في ظلّ بيروت" وأوديسة اللجوء التي لا تنتهي
صبرا وشاتيلا بعيون مخرجين أيرلنديين
"في ظلّ بيروت" وأوديسة اللجوء التي لا تنتهي
البؤس، بأشكاله وصوره المختلفة، أوّل ما يقفز إلى الذهن، عند الحديث عن مخيّمات اللاجئين. فالمخيّم، وتبعا له اللجوء، أيا تكن أسبابه، هو في حدّ ذاته عارض أساسي من عوارض المشكلة الكبرى سواء تمثّلت في الحرب أم في الفقر أم الاضطهاد السياسي، أم ذلك كله معا، كما هو الحال غالبا. غير أن الأيرلنديين ستيفن جيرارد كيلي وغاري كين، في فيلمهما الوثائقي "في ظلّ بيروت" (2023)، لا يختاران الذهاب إلى الأسباب والجذور، مثل الحرب في سوريا، أو اللجوء الفلسطيني المعروف أو ببساطة، الفقر المدقع، إلا من باب الإشارة الموضوعية إلى أحوال اللاجئين في مخيم صبرا وشاتيلا الواقع على أطراف العاصمة اللبنانية بيروت، وينشغلان أكثر بوقائع تلك الحيوات المنسوجة داخل المخيم وبتوالي الأيام والأحداث على تلك الحيوات، وذلك من خلال قصص أربع عائلات فلسطينية ولبنانية وسورية وعائلة من الغجر (أو من يطلق عليهم في لبنان مسمّى "النّوَر")، وكأنّ في جمع هذه الأطياف المختلفة، والخلفيّات المتغايرة للجوء، يسعى صنّاع الفيلم إلى تقديم سرديّة تتجاوز البيانيّة السياسية الاحتجاجية، إلى محاولة فهم (وتصوير) نمط العيش في ظلّ هذه الظروف القصوى، في مدينة مثقلة أصلا بالأزمات المعيشية والاقتصادية والسياسية، التي كأنّما تراكمت جميعها وتجسّدت في انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، وهي لحظة ينطلق منها الفيلم، من دون أن يتخذها محورا أساسيا لسرده، إلا في الأعباء الإضافية التي يفرضها على أبطال الفيلم من لاجئي المخيّم وما يفاقمه من أحوال معيشتهم اليومية.
البؤس المستدام
غير أن البؤس ليس كلّ شيء في هذا الوثائقي. البؤس يتجلّى نتيجة بديهية للجوء، لكنه ليس العدسة التي يرى من خلالها مخرجا الفيلم حيوات شخصياتهما. ذلك أن اللجوء هنا ليس عابرا أو مؤقتا، يبدأ في لحظة وينتهي في لحظة، سواء بتسوية الأوضاع أو أحيانا برفض منح اللجوء لطالبيه، كما يحدث في بعض البلدان الأوروبية. فحين نتحدّث عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما تلك التي في لبنان، فإننا نتحدث عن أوضاع تبدو مستدامة، ليتحوّل المخيّم من مكان استضافة مؤقتة، يضطر آهلوه إلى تحمّل أوضاع عيش استثنائية خلال مكوثهم فيه، بأمل التخلص منها يوما ما، إلى مكان عيش دائم، وهذا الواقع ينتقل من اللاجئين الفلسطينيين في المخيّم، إلى آخرين من جنسيات أخرى، ومنهم السوريون، الذين أجبروا على اللجوء بسبب الحرب المندلعة في بلدهم منذ أكثر من عشر سنوات، أو بسبب أوضاعهم المعيشية الشخصية.
حين نتحدّث عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما تلك التي في لبنان، فإننا نتحدث عن أوضاع تبدو مستدامة، ليتحوّل المخيّم من مكان استضافة مؤقتة، إلى مكان عيش دائم
بعد مقدّمة تمهيدية تستغرق ثلث مدّة الوثائقي تقريبا، نتعرّف الى العائلات الأربع التي سيدور حولها الفيلم: عائلات عبيد وقجيجي وضاهر وزياني، التي لا يربطها رابط سوى العيش في حيّز مكاني واحد، حدوده مخيّم صبرا، لنمضي بعد ذلك في قصة الكفاح اليومية لهذه العائلات التي نرافقها خلال فترة تمتد من سنتين إلى ثلاث سنوات، تخللها كوفيد19 وانفجار المرفأ، ثم الأزمة الاقتصادية الجارفة التي عصفت بلبنان. لكنّ هذا الرابط المكاني يخلق روابط أخرى تجعل العائلات المتفرّقة في الواقع، متقاربة في كلّ شيء تقريبا، من الهشاشة التامة التي يخلقها واقع اللجوء، إلى تفاصيل العيش اليومي، إلى الأحلام الفردية التي يتمحور معظمها حول الخروج من هذا المكان (المخيم) إلى واقع آخر. في إحدى اللحظات تقول الأم في العائلة السورية اللاجئة، إن أكثر ما تخشاه هو أن يفقد أطفالها مشاعر العطف والمحبة، وأن يصبحوا قساة القلوب بمرور الزمن وطول عيشهم في المخيّم، وفي كلامها هذا تعيين للكفاح الحقيقي، وإن الخفي، الذي يعيشه اللاجئون، تحت طبقة السعي إلى تحقيق أسباب العيش الاعتيادي من تأمين للطعام والشراب وتكاليف السكن والماء والكهرباء والدواء.
فالكفاح الحقيقي الذي يربط شخصيات الفيلم بعضها ببعض، هو السعي إلى النجاة بأقلّ قدر ممكن من الخسائر، تلك التي تبدأ من أخطار تهدّد الحياة مباشرة، وهو ما نراه في وفاة طفلة إحدى العائلات بسبب العجز عن تحمّل تكلفة علاجها ورعايتها، أو بصورة غير مباشرة، مثل إدمان المخدرات، أو ببساطة، التعرض للقتل بالخطأ في حوادث العنف الكثيرة. تقول الأم: "لم أهرب بأولادي من سوريا، لأخسرهم في لبنان"، في معادلة تختصر جوهر هذا الكفاح اليومي حيث المكسب الفعلي ليس ما قد يجنيه طفل أو ربّ أسرة من عمله، وليس مدى الاقتراب من التخلّص من هذه الأوضاع المعيشية البائسة، بل مجرد أن تبقى هذه العائلات معا، وأن تتمكن من الانتقال من يوم إلى آخر.
نتعرّف الى المخيّم بوصفه استمرارية لطريق البحث عن الخلاص، وليس وجهة أخيرة
نتعرّف الى المخيّم بوصفه استمرارية لطريق البحث عن الخلاص، وليس وجهة أخيرة. تتغيّر الفكرة الكلاسيكية القائلة إن التحدّي الحقيقي في اللجوء هو في الصمود أمام أهوال الطريق وأخطاره، للوصول أخيرا إلى مكان آمن، فالمخيّم، بالنسبة إلى المشرّدين، ليس مكانا آمنا في أيّ حال من الأحوال. إنه التجسيد الكامل لكلّ ما هو عكس الأمان، من مشاعر الخوف والقلق والارتياب. الأب الذي يقلق طوال الوقت على ابنته المراهقة، ويمنعها حتى من الخروج من البيت إلا بصحبة أمها، خشية أن تتعرّض إلى ما قد تتعرض له أي فتاة مراهقة من مشاعر الغواية والانجذاب إلى أحد العاطلين عن العمل مدمني المخدرات الكثر في المخيم، لا يختلف كثيرا عن الأب الذي جعل حلمه الأكبر في الحياة إخراج طفله يوما ما من المخيم، إلى أوروبا الموعودة، من دون أن يمتلك أيّ وسيلة تقرّب هذا الحلم منه. الذكور في هذا الوثائقي عموما يصبحون تعبيرا عن الهزيمة المطلقة. في أحد المشاهد نرى شابا يمارس سلطته على خطيبته المراهقة بأن يفرض عليها عدم وضع عدسات لاصقة ملونة، غيرة عبثية عليها أو ربما مجرّد تنفيس عن سيطرة لا يملكها على الحياة نفسها، من خلال سيطرته على كائن أكثر هشاشة منه. هذا النوع من محاولات السيطرة نراه في تصرفات معظم الذكور في الفيلم، حتى تزول هذه الطبقة الرقيقة، كاشفة عن عجز شامل يزيل الفوارق الفعلية بين الجنسين أو يبدّل الأدوار، فنرى الرجال وقد استسلموا إلى مشاعر الرقة والحنان، ونرى النساء وقد ازددن صلابة وربما قسوة في تلك المعركة اليومية من أجل البقاء.
أما إحدى أكثر القصص تأثيرا في الفيلم، فهي قصة الطفل "أبو أحمد" (10 سنوات) الذي يضطر إلى العمل يوميا في جمع القمامة والتخلص منها، ثم في بقالة، لكي يتمكن بالقليل الذي يجنيه من مساعدة أمه على القيام بمسؤوليات العائلة التي فقدت عائلها في سوريا. لا نعرف لماذا يحمل الطفل كنية يحملها الرجال عادة، "أبو أحمد"، لكنّ الدور الذي ينهض به هو مما ينهض به الرجال البالغون عادة لا الأطفال. الخشونة التي يعامله بها الفتية الأكبر سنا أو الرجال المحيطون به في الشارع، تبدو بديهية ضمن هذه السردية، فهم يحترمونه ويقدّرون ما يقوم به من أجل عائلته، لكنّ معاملته بخشونة تصبح جزءا من اسمه ومن دوره، وهو يتقبّل هذه الخشونة بطيب خاطر، إذ يدرك أنه لا يستطيع أن يكون طفلا، وإنه بمجرد وجوده في الشارع، بلا أب وبلا مظلة حماية من أيّ نوع، يجعل القسوة مفردة أساسية من مفردات الصمود والاستمرارية.
في العديد من اللقطات الجوية أو البانورامية في الفيلم، نرى النطاق الجغرافي الأوسع، مدينة بيروت المترامية الأطراف والمباني المرتفعة، تلك التي تلوح أحيانا بأضوائها المتلألئة ليلا من فوق أسطح بيوت المخيم فتلوح لساكني تلك البيوت مكانا بعيدا غريبا ليس في متناول اليد. هذه المدينة ليست ممنوعة على سكان المخيم، فلا أسوار تمنعهم من الخروج، ولا حواجز عسكرية كتلك التي نراها في مخيمات أخرى مثل "عين الحلوة" في جنوب لبنان، تحاصر صبرا وشاتيلا وتمنع الدخول أو الخروج إلا بإذن، لكنها محظورة في حقيقة الأمر رمزيا ومعنويا. على أبناء المخيم أن يبقوا في المخيم وأن يدبّروا عيشهم فيه بمفردهم، دون أيّ حضور يذكر لأي سلطة أو هيئة مدنية أو إدارية تشبه الدولة أو توحي بها.
النجاة الحقيقية ليست في الوجهة التي يمكن بلوغها، وبرّ الأمان الذي يمكن الوصول إليه، بل في القدرة على الاحتفاظ بمشاعر الحبّ تلك، وعدم فقدان القدرة على التعاطف
المرة الوحيدة التي نرى فيها مظهرا من مظاهر "الدولة" هي حين تدخل مجموعة مسلحة من رجال الشرطة لإزالة "مخالفات" في بناء بعض أكشاك البيع والتجارة. اللاجئ الفلسطيني الذي يفقد مصدر رزقه الوحيد يعرض المفارقة المتمثلة في هذا الوضع، "يقولون إنني لا أملك رخصة، لكنهم في الوقت نفسه لا يمنحونني رخصة لأنه ممنوع عليّ العمل في لبنان". ملمح آخر نراه من خلال قصة الطفلة، سارية، التي ولدت بمرض جلدي نادر والتي تفارق الحياة في النهاية بعد استعصاء معالجتها، وبعد رفض المستشفيات استقبالها لأن أهلها لا يمتلكون تكلفة العلاج. أما الملمح الثالث فنراه من خلال الشاب عبودي الذي سجن بسبب تعاطيه المخدرات واتجاره بها، وحين خرج بات عاجزا عن إيجاد عمل، ولولا قرار مصيري بعدم العودة إلى حياته السابقة كرمى لطفله، لبدا أكثر أمر بديهي يمكنه القيام به هو العودة إلى حياة الإجرام والعصابات، بسبب انسداد الأفق تماما أمامه.
ترسم هذه القصص، بالإضافة إلى الفضاء العام للمخيم نفسه، صورة عن التخلّي التام الذي يعاني اللاجئون آثاره الفادحة. فالدولة حاضرة فقط بوصفها سلطة قمعية، في حين تغيب الأشكال الأخرى من الدعم والرعاية المدنيين، أما صور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس التي نلمحها على هذا الجدار أو ذاك، فتفتقر حتى إلى القيمة الرمزية التي تحملها صور ياسر عرفات مثلا، فهو هنا مجرد ممثل لـ"سلطة" بعيدة ومتخلّية عن المخيم وأهلها بقدر تخلي الدولة اللبنانية نفسها. ما يبقى في النهاية من أسباب العيش والانتقال به من يوم إلى آخر، هو تكافل السكان، وخصوصا العائلات، بعضهم مع بعض، وإن كان هذا التكافل لا يتخذ أيّ شكل مؤسسي أو مدني، وتتهدّده باستمرار أزمات (مثل كوفيد 19 أو انهيار العملة اللبنانية) يستعصي على الأفراد التعامل معها.
دروس الحبّ
يبقى الأهم في قصص هذه العائلات، هو أنها في نهاية المطاف، تجسّد أشكالا من الحبّ الحقيقي تبدو خشبة خلاص وحيدة وسط محيط من القسوة والتوحّش. حين تتوفى الطفلة سارية، نتوقع أن نلمس تسليما بهذا "القدر" وربما شعورا بالارتياح لدى أفراد عائلتها، إذ ارتاحت هي من آلامها الدائمة، وتخفّفوا هم من أعباء مشاهدة عذاباتها دون القدرة على فعل شيء لها، لكنّ تفجّعهم عليها، وعويل والديها وأخوتها، ومشاعر الاشتياق التي يبدونها نحوها، تكشف أن الأمور ليست بهذه البساطة الحسابية الباردة، وأن مشاعر الحبّ التي يملكونها تجاهها، وبعضهم تجاه بعض، أعمق بكثير من أن تجعل الافتراق الأقسى المتمثّل في الموت حلا أو راحة لأحد.
المشاعر نفسها نلمسها عند "أبو أحمد" الذي، على الرغم من قسوة عالم الرجال الذي يتحرّك ضمنه طوال يومه، نراه يعود طفلا في حضن أمه مساء، وكذلك عند عبودي، الأب الشاب الذي قرّر عدم العودة إلى حياة المخدرات، على الرغم من انعدام جميع البدائل وانسداد جميع الآفاق في وجهه، "لأنني لا أريد أن يكبر ابني ويقال له إن أباك كان تاجر مخدرات". جميع شخصيات هذا الوثائقي تتنفّس الحبّ وتعيش من أجله، وبقدر ما ينجح الفيلم في رسم مختلف صور مأساة تلك العائلات، فإنه ينجح في رصد تلك المشاعر، لتصبح النجاة الحقيقية، ليست في الوجهة التي يمكن بلوغها، وبرّ الأمان الذي يمكن الوصول إليه، بل في القدرة على الاحتفاظ بمشاعر الحبّ تلك، وعدم فقدان القدرة على التعاطف، والتماس أصغر أسباب الأمل، وسرقة الضحك المشترك من قلب كل التجهم المسيطر، وتبادل الكلمات اللطيفة في خضم كل تلك القسوة المستبدة.