حيفا- انتشر في العقدين الأخيرين التحليل القائل إن إسرائيل والصهيونية ومؤسساتها العالمية، وتحديدا ما يفعلونه في فلسطين، هو جزء من تجليات "الكولونيالية الاستيطانية"، أي الانتقال البشري من مناطق ودول قوية لأجل الاستيلاء على أراض لم تكن تابعة لها من قبل، والقيام بالاستيطان فيها، وبناء مجتمع جديد، يحفظ فيه هؤلاء المهاجرون القدرة على التملك والسيطرة واستغلال المقدرات البشرية والطبيعية للأرض "الجديدة".
اعتمدت هذه القراءات على الأعمال الحديثة التي تؤطر لفهم ما سمي "الكولونيالية- الاستيطانية"، ووردت هذه الرؤى بشكل منهجي في أعمال كل من الباحثيْن باتريك وولف، ولورنزو فيراسيني، وما نُشر اعتمادا على هذا التأطير اختلف- ولو بشكل جزئي- عن كتابات سابقة حللت الصهيونية وإسرائيل كجزء من ظاهرة كولونيالية "عادية"، طبعا مع الالتفات إلى حيثيات خاصة تتصل بها وبعلاقتها بأهل البلد الأصليين- الفلسطينيين.
"الكولونيالية الاستيطانية" هي عملية إعادة تصميم لمناطق يسيطر الاستعمار عليها وعلى سكانها الأصليين، بحيث يتطلع المستعمر إلى البقاء، ويطور أدواته الخاصة للسيطرة والتوسع، وتصميم الحيز حسب مصالحه، بوصفه كيانا جديدا منفصلا تدريجيا عن "البلد الأم"، أي الدولة أو الجماعة التي شرعت في عملية الاستيلاء الكولونيالي على البلاد الجديدة. للمستعمِر، وبحسب هذا النموذج، أجندته المتمثلة في تجاهل الواقع قبل وصوله، والسعي إلى تصميمه من جديد من خلال أدوات "إخفاء" و"محو" السكان الأصليين وأشكال حياتهم، بحيث يتطلب الأمر اتباع أساليب عنيفة مثل القتل الجماعي (الجينوسايد)، أو الترحيل إلى مناطق أخرى، أو التجاهل التام في عمليات إعادة الإنشاء التي تخدم المستعمِر الذي يتطلع إلى البقاء على الأرض الجديدة وجعلها له دون غيره.
يرى الاستعمار الاستيطاني بالسكان الأصليين عاملا معيقا في إنشاء مجتمع جديد، باعتبار أن هدف الاستعمار ليس السكان، بل الأرض التي يعيشون عليها، ولهذا فهو يسعى إلى إزالتهم. هذه الإزالة أخذت في التاريخ أشكالا مختلفة، ليس فقط من خلال الإبادة الجسدية أو الإزالة عن الأرض، بل أيضا من خلال التجاهل أو العزل في المحميات، أو محو ثقافة الأصليين، أو استيعاب الأصليين بمختلف الطرق.
إن فهم الحرب على غزة ونتائجها التي ما زالت تتمدد في سيرورة التمدد الكولونيالي- الاستيطاني لفلسطين هو مفتاح لفهمها، وفهم التحولات في إسرائيل، ويعيدنا هذا بالطبع مرة أخرى إلى ضرورة تطوير فهمنا لوضع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وشكل الحل السياسي، وأهمية القرارات الدولية، ووضع السياسة الفلسطينية تحديدا، والوضع العربي عموما، كما وضع الفلسطينيين مواطني إسرائيل ودورهم، لكن ذلك يتطلب بالتأكيد جهدا إضافيا لمحاولة الفهم والتمحيص.